“تقرير“| الانتخابات الرئاسية في لبنان: صراع السفراء الغربيين والعرب لفرض رئيس في مجلس النوّاب..!

6٬879

أبين اليوم – تقارير 

تكشف الانتخابات الرئاسية اللبنانية عن واقع مزعج ولكنه مألوف. ففي حين يتحدث الزعماء عن السيادة، تسيطر القوى الأجنبية على الرئاسة، ويحدد السفراء والتهديدات النتيجة، ويتركون الشعب اللبناني يتحمل العواقب.

برز اسم قائد الجيش بوصفه المرشّح الأكثر دعماً دولياً مع أنّه لا قاعدة شعبية له، وتحديداً الدعم الأمريكي والسعودي والفرنسي.

يكاد يكون لبنان البلد الوحيد الذي يُنتخب فيه رئيسٌ من دون أن يترشّح لخوض السباق الرئاسي. البلد الوحيد الذي لا يحتاج فيه المرشّح الرئاسي أن يُقدِّم مشروعاً انتخابياً ليُختار على أساسه. ليس بحاجة أن يُضيّع وقته لوضع رؤية اقتصادية واجتماعية وسياسية لكونه يُريد إدارة البلاد. البلد الوحيد الذي منذ أيام العثمانيين كان “القنصلاتو” التركي أو القنصل هو من يُعيِّن الحاكم اللبناني.

وبقي هذا الأمر على حاله في أيام انتداب الفرنسيين ثم في عهد الوجود السوري وصولاً إلى اليوم مع الموفدين الأجانب والعرب من الأمريكي والسعودي والقطري والفرنسي، الذين هم من يُقرّرون اسم رئيس جمهورية لبنان وعلى الجميع الإذعان.

يُملى الاسم على الفرقاء ليضعوه في صندوق الاقتراع من دون أي نقاش، ثم يأتيك من يتحدّث عن سيادة لبنانية متحدّثًا عن خضوع لبنان للاحتلال الإيراني. بينما يُسمّون الإمعان في فرض الهيمنة الغربية والعربية لإخضاع لبنان تحت طائلة التهديد والعقاب، يُسمّونه “احتضاناً”.

وهنا تُستحضر طرفة أطلقها الرئيس نبيه بري في جلسة خاصة أنّه قد يدعو السفراء إلى الجلوس في مقاعد النوّاب في المجلس النيابي لكونهم هم من يُصوِّتون فعلياً لانتخاب رئيس لبنان وليس النوّاب. يُريد الرجل أن يكون التصويت بالأصالة لا بممثلين عنهم.

في بلاد الأرز خلال فترة الانتخابات الرئاسية، لم يكن السؤال المركزي من هو الرئيس الذي يُريده اللبنانيون؟ إنما كان السؤال: من تدعم السعودية للرئاسة؟ ومن هو مرشّح قطر؟ ومن تُريد أمريكا رئيساً للبنان؟ ولماذا يحجّ وزير الخارجية الفرنسية جان إيف لودريان إلى مقرّ الرئاسة الثانية في لبنان للضغط من أجل قبول مرشّح بلاده؟

يأتي هؤلاء محمّلين بتهديد ووعيد بأنّه إذا لم يُنتخب مرشّحهم، فإنّ عملية إعادة الإعمار، جرّاء الحرب الإسرائيلية الهمجية التي شُنّت على لبنان، مُرجأة لن تحصل. وأنّ الدول العربية لن تسمح بإعادة الإعمار ولن تدفع فلساً واحداً. وأنّ الحرب الإسرائيلية قد تتجدد! وأنّ الحصار سيُضيّق على البلاد، لكون اختيار أي مرشّح آخر سيُعتبر تحدياً للمجتمع الدولي وللحضن العربي..!

وأنّ هناك عقوبات أمريكية محتملة على رئيس مجلس النواب إن لم يرضخ..! كيف يفهم هؤلاء الديمقراطية التي يُحاضرون علينا بها؟

وفي مراجعة سريعة للتاريخ القريب، يمكن معاينة التدخلات الخارجية في الانتخابات الرئاسية في لبنان:

  1.  في العام ١٩٨٩، انتخب إلياس الهراوي رئيساً كنتيجة لاتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية، برعاية سورية سعودية أمريكية.
  2. انتخب قائد الجيش العماد إميل لحود رئيساً عام ١٩٩٨، بمباركة سورية، ثم تم التمديد له عام ٢٠٠٤ لثلاث سنوات بدعم من دمشق.
  3. في العام ٢٠٠٨، توصل الفرقاء اللبنانيين إلى تسوية عرفت بـ”اتفاق الدوحة”، جاءت بقائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً، برعاية عربية.

الناخب أجنبي لا لبناني:

خلال هذه الانتخابات في لبنان كان هناك مرشّحان فقط أعلنا عن ترشّحهما فعلياً لخوض السباق الرئاسي هما الوزير السابق زياد بارود والنائب نعمة أفرام، لكن لم يكن لديهما حظوظ بالنجاح. والسبب هو عدم وجود دعم دولي لأي منهما، مع أنّ دافعهما للترشح كان اعتقادهما أنّ الحظ قد يبتسم لهما، لكنّ ذلك لم يحصل.

ولم يكد هؤلاء أن يترشحا حتى سارع الأول إلى إعلان سحب ترشّحه فيما أعلن الثاني أنّه لن ينتخب نفسه، إنما سيُصوّت لقائد الجيش جوزيف عون. في مقابل هذين المرشّحين، برز اسم كل من قائد الجيش اللبناني العماد جوزف عون، الذي أصبح رئيساً جديداً للبنان، ومدير عام الأمن العام اللواء الياس البيسري ووزير المالية الأسبق جهاد أزعور وسمير عساف الذي طُرح اسمه سابقاً لحاكمية مصرف لبنان.

وسط هؤلاء، برز اسم قائد الجيش بوصفه المرشّح الأكثر دعماً دولياً مع أنّه لا قاعدة شعبية له، وتحديداً الدعم الأمريكي والسعودي والفرنسي الذي حظي به وسط خلافٍ بشأن قانونية ترشّحه لكون ذلك يتطلّب تعديلاً دستورياً.

والسخرية تتجلى في أنّ المرشّح الدولي العربي الذي أصبح رئيسا للبنان أي في أعلى منصب مسيحي في البلاد، لم يحظى برضا القوى السياسية المسيحية الوازنة في لبنان. لم يرضَ بانتخابه سمير جعجع زعيم القوات اللبنانية إلا مرغماً.

كذلك الأمر مع التيار الوطني الحر الذي رفضه رئيسه جبران باسيل رفضاً قاطعاً. حتى أنّ رئيس تيار المردة سليمان فرنجية لم يكن موافقاً على انتخاب عون، إنما قرر السير به في اللحظات الأخيرة بعدما سُدّت في وجهه السُبُل.

تلا عون، المدير العام للأمن العام الذي كان مدعوماً من كل من قطر وفرنسا قبل أن تضغط الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية لاستبعاده، إضافة إلى تأييد جانب من اللبنانيين له. غير أنّ أياً من هؤلاء لم يُقدم مشروعاً انتخابياً واضحاً يشرح فيه لماذا يجب أن يُنتخب؟ وبماذا يعد اللبنانيين أو نوّابهم؟ ما هي رؤيته الاقتصادية في ظل الانهيار الاقتصادي الأسوأ الذي تعيشه البلاد منذ أربع سنوات. ماذا عن البطاقة الصحية؟ ما هي خطته لإعادة الإعمار ولإيواء المهجّرين بعد الحرب الإسرائيلية؟ ما هي خطته للاستراتيجية الدفاعية عن لبنان؟ لا شيء من هذا القبيل. يكفي أن يكون حائزاً على رضا ولاة الأمر الدوليين.

وفي هذا السياق، يقول أحد المرشّحين للرئاسة إنّه خلال لقاءاته مع النوّاب كان يُسأل عن نقطة أساسية: ما هو موقفك في مسألة سلاح حزب الله؟ ما موقفك من القرارات الدولية؟ أما الشأن الاقتصادي فإنّهم يمرّون عليه لماماً حيث لم يسأله أحد عن خطته لحل أزمة المودعين جرّاء سرقة ودائعهم وتبخّر مدخرات قُدّرت بأكثر من سبعين مليار دولار حتى بات عدد كبير منهم يعيش تحت خط الفقر. هذا أمرٌ تافهٌ لا يعنيهم.

ولدى سؤال النوّاب أنفسهم عن تدخلات الموفدين الغربيين مثل الأمريكي عاموس هوكستين والفرنسي لودريان والأمير السعودي يزيد بن فرحان والمبعوث القطري جاسم آل ثاني، فإنّ إجابتهم تكون على شاكلة أنّ هؤلاء أصدقاء لبنان يحاولون تقديم المساعدة، فيما هي في الحقيقة إملاءات مشروطة بتهديد ووعيد بالعقوبات والمقاطعة والحصار.

فقد بدأ الجانب السعودي معركته الرئاسية بإبلاغ النواب السائرين في ركبه بوجوب التصويت للعماد جوزيف عون. لم يعترض أحد، إنما أعلنوا السمع والطاعة. خلال ساعات سارعوا لإعلان دعمهم للمرشح المدعوم دولياً جوزيف عون. لقد حضر الموفد السعودي مرتين خلال أسبوع واحد إلى لبنان وكذلك فعل الموفد الفرنسي. وكلاهما مارسا ضغوطاً للسير بعون خلال لقاءاتهم مع الرئيس بري.

كذلك مارسوا ضغوطاً على رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع للسير بجوزيف عون بعدما كان يرفض انتخابه. كذلك فعل النائب جبران باسيل الذي تراجع عن تأييد اللواء إلياس البيسري بعدما وردت إليه رسائل واضحة برفض ترشيحه، رغم أن السفيرة الأمريكية في لبنان ليزا جونسون كانت تقول أمام من تلتقيهم إنّ لا فيتو  على ترشيح البيسري.

منافسة بين موفدي السعودية وقطر:

أمام هذا، بات اللبنانيون يحفظون اسم الموفد القطري جاسم آل ثاني (أبو فهد القطري) والموفد السعودي يزيد بن فرحان (أبو فهد السعودي) أكثر مما يحفظون أسماء نوابهم.  هؤلاء الرجلان موفدين لدولتين عربيتين يخوضان معركة رئاسة الجمهورية اللبنانية في بيروت.

صراع أبو فهد مع أبو فهد حُسم لصالح المملكة لينسحب باقي المرشحين وظهر ذلك في قول الموفد السعودي لنوّاب لبنانيين أثناء لقائهم: “نحن ابتعدنا عن لبنان في المرحلة الماضية، لكننا سنعود. عودتنا مرتبطة بالانتخابات الرئاسية، وما يهمنا هو مواصفات الرئيس المقبل للجمهورية، وهي أن يكون إصلاحياً، وأن يلتزم بتطبيق القرار ١٧٠١، وأن يلتزم بحصرية السلاح بيد الدولة.

وفي رأينا أن هذه المواصفات تنطبق على شخص وحيد”. ويُنقل أنّ الموفد السعودي تحدث عن أن بلاده لم توافق على التوجه القطري لانتخاب اللواء البيسري، الذي كان مرشحاً ضمنياً لعدد كبير من النوّاب. وقد ذكر المستشار في الخارجية السعودية أن انتخاب رئيس للبنان بـ٦٥ صوتاً سيكون “تهريبة ستحول دون عودة المملكة إلى لبنان”. هذا الرجل الذي يتحدث عن مرشّح يحافظ على السيادة اللبنانية هو أول من ينتهك هذه السيادة بفرضه مرشّحاً وحيداً لا غيره هو جوزيف عون.

لكن أحداً من النوّاب اللبنانيين الذين يتدخّل هذا المستشار السعودي في انتخاباتهم اللبنانية، لم يجرؤ على وضعه عند حدّه. وشهود الزور أنفسهم من النوّاب الذي يحاضرون بالسيادة ليل نهار يروّجون في لقاءاتهم الصحفية أنّ “عدم انتخاب قائد الجيش رئيساً للجمهورية سيؤدي إلى استمرار الحرب الإسرائيلية الأمريكية على لبنان، وسيمنع إعادة الإعمار”.

هكذا تفرض الدول الديمقراطية والملكية رئيساً لجمهورية تتغنّى بالديمقراطية تحت التهديد بالحرب. ويُساعدها في ذلك نوّابٌ يميلون مع الريح الآتية من الخارج لا من منطلقات وطنية.

ليس البازار السياسي الدولي وحده ما يُميّز الانتخابات الرئاسية في لبنان. فقد كشف الصحفي اللبناني حسن علّيق في منشور له على تويتر معلومات عن عرض نوّاب أصواتهم للبيع للمرشّح الذي يدفع أكثر. كتب علّيق: “ما لا يعرفه كثيرون من اللبنانيين أن الانتخابات الرئاسية هي مناسبة لبعض النواب لكي يبيعوا أصواتهم.

قبل أكثر من عام، قبض أحد النواب مبلغ ٢٥ ألف دولار من مرشح رئاسي (سابق) مقابل منحه صوته، رغم أنهما كانا يعلمان أن المرشح لم يصبح رئيساً، بل كان جل هدفه تسجيل عدد من أصوات النواب المؤيدين لترشيحه.

قبل الانتخابات الرئاسية، بدأت بورصة سعر الأصوات النيابية ترتفع. أكبر مبلغ معروض مقابل صوت هو ٣٠٠ ألف دولار مقسّطة على ١٢ دفعة (٢٥ ألف دولار شهرياً) مع وعد بالنظر في استكمال الدفع بعد انقضاء السنة. أكبر مبلغ مطلوب مقابل صوت طلبه نائب يقول إنه لن يعود إلى النيابة مرة جديدة، وأنه يريد مليون ونصف مليون دولار مقابل صوته الرئاسي”.

هؤلاء أصبحوا بعد اللبنانيين، أكبر الخاسرين من الانتخابات الرئاسية الماضية، لكون التدخلات الأجنبية والعربية لانتهاك سيادة لبنان حرمتهم من قبض ثمن أصواتهم. فالرئيس اللبناني يُصنع في الخارج بأيدٍ أمريكية وفرنسية وسعودية.

وكل كلام عن السيادة هو مجرد ذرّ للرماد في عيون السُذّج والبُسطاء من اللبنانيين. وأتت هذه الضغوط السياسية عربياً ودولياً لفرض واقع سياسي جديد في لبنان استكمالاً للحرب الإسرائيلية التي شُنّت على لبنان. إذ إنّ نتائج الحرب تُستثمر في السياسة. وبناء على النتائج السياسية من مكاسب وخسائر هي وحدها من تُحدّد الرابح من الخاسر.

لا رئيس من دون حزب الله وحركة أمل:

في ملعب السياسة اللبنانية اليوم، لا يملك الثنائي الشيعي الذي يُمثّل جزءاً أساسياً من محور  المقاومة سوى رئاسة الجمهورية ليُفاوض عليها لقبض ثمنٍ مرضٍ قد يخفف من وطأة الحرب الإسرائيلية التي شُنّت ضده وتسببت بتدمير مناطق كبيرة في البقاع والجنوب وضاحية بيروت الجنوبية. وهذا الثمن هو إعادة الإعمار والاتفاق على الحكومة واسم قائد الجيش الجديد وتعهد بالاستقرار الاقتصادي لسنوات.

غير أن الموفدين الدوليين رفضوا تقديم أي تعهدات. وفي الدورة الأولى للانتخابات، اختار حزب الله وحركة أمل التصويت بورقة بيضاء بانتظار تعهّدات من قائد الجيش جوزيف عون والموفدين السعودي والأمريكي والفرنسي بشأن إدارة البلاد في المرحلة المقبلة ومسائل إعادة الإعمار والحكومة ووزارة المالية والاستراتيجية الدفاعية واسم قائد الجيش المقبل.

لم تُفلح ضغوط العالم بإجبارهم على المُضي من دون صفقة واتفاق. وكل كلام غير ذلك للتعمية. وهذا القرار في الدورة الأولى كان للقول للجميع بأنَه لا رئيس من دون موافقتنا. تُقدّم التعهدات ويحصل الاتفاق ثم يُنتخب قائد الجيش رئيساً للجمهورية.

كان متوقعاً أن يحصل جوزيف عون على ٧٦ صوتاً، لكنّه حاز ٧١ صوتاً فقط. خسر خمسة أصوات في الجولة الأولى. وهذا دلالة على أنّ هندسة الأرقام تقول الكثير. فرض الموفدون الدوليون مرشّحهم على الجميع بالضغط، لكنهم فاوضوا الثنائي. عُقِدت ٤ جلسات مع المستشار السعودي يزيد بن فرحان مع علي حسن خليل ثم في المجلس النيابي. ثم حصل لقاء بين الثنائي وعون. خلاصتها كانت يمكنك أن تتحاور معنا، لكن لا يُمكنك أن تتخطّانا. في النهاية مع كل العنتريات، كانت الكلمة النهائية للثنائي في ملف رئيس الجمهورية. ستبقى وزارة المالية مع الثنائي والتزمت السعودية بملف إعادة الإعمار بضمانات. في الدورة الثانية، انتُخب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية.

 

المصدر: The Cradle

 

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com