عطوان: “لهذه الأسباب يُدير السنوار ظهره للوُسطاء العرب واقتِراحاتهم “المسمومة” لهُدنةٍ جديدة في القطاع.. لماذا تتزايد فجأةً الخسائر البشريّة في صُفوف الكيان؟ وماذا يعني إرسال مُسيّرة عِراقيّة لقصف حقل غاز “كاريش” في المُتوسّط؟ وما هي عناوين “أوسلو الجديدة” التي يُروّج لها توماس فريدمان حاليًّا..!
أبين اليوم – مقالات وتحليلات
تحليل/ عبد الباري عطوان:
المُجاهد يحيى السنوار رئيس حركة “حماس” في قطاع غزة يُركّز وجِنرالاته كُل جُهوده هذه الأيّام على كيفيّة إلحاق أكبر قدر من الخسائر البشريّة في صُفوف قوّات الاحتِلال، ولهذا لا يُعير أيّ اهتمامٍ لكُل المُفاوضات التي يقوم بها وُسطاء عرب، باستِجداءٍ من بنيامين نِتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي ورعايةٍ مُباشرة من حُكومة الرئيس الأمريكي جو بايدن.
استراتيجيّة السنوار هذه نجحت بشَكلٍ كبير في الأيّام الأخيرة، ويتّضح هذا النّجاح من خِلال التّصاعد في أرقامِ القتلى والجرحى في صُفوف قوّات الاحتِلال المُنخرطة في الحرب البريّة في قطاع غزة، و”هُروب” قوّات النّخبة (جولاني) بعد مقتل قائدها ومعه أكثر من 88 من جُنودها وضُبّاطها، أي ما يزيد عن 44 بالمئة من مجموع أفراد هذا اللّواء.
نتنياهو اعترف في تصريحاتٍ أدلى بها قبل انعقاد حُكومة الحرب التي يتزعّمها، بأنّ الكيان يدفع ثمنًا باهظًا في الحرب هذه الأيّام، سواءً في قطاع غزة أو جنوب لبنان، ولكن ليس هُناك خيارٌ أمامه غير الاستِمرار في القتال حتّى القضاء على حركة “حماس” واستعادة جميع الأسرى الإسرائيليين، وتوفير الأمن للمُستوطنين في مُستوطنات وبلدات غِلاف القطاع المُحتل.
مقتل 14 ضابطًا وجُنديًّا إسرائيليًّا وتدمير ثلاث دبّابات مُنذ يوم أمس الأوّل الجمعة في كمائنٍ نصبها رجال المُقاومة في وسط غزة وخانيونس، إلى جانب عشرات الجرحى في اشتباكاتٍ في جباليا ودير البلح والشجاعيّة في مُواجهاتٍ مُباشرة، الأمر الذي يُؤكّد أن رجال المُقاومة هُم الذين يملكون اليد العُليا، وانتقلوا من استراتيجيّة الدّفاع إلى استراتيجيّة الهُجوم بعد انتهاء “رهبة” الغزو البرّي الإسرائيلي، وإعادة تجميع الصّفوف، وإدخال أسلحة جديدة في الخدمة.
ما يُشجّع قيادة المُقاومة في القِطاع على تأجيل، وربّما عدم إضاعة الوقت بمُقترحاتِ تبادل الأسرى، والتّركيز على تصعيد المُواجهات مع قوّات الاحتلال وتجمّعاتها، لقتل أكبر عدد من الجُنود وتدمير المدرّعات والدبّابات والتحلّي بالصّبر الاستراتيجي مجموعة من النقاط نُوجزها كالتّالي:
أوّلًا: فقد السنوار وجِنرالاته الثّقة كُلِّيًّا بالوُسطاء العرب، وباتوا يعتقدون أنّهم يتحرّكون بتعليماتٍ من الإدارة الأمريكيّة وبتنسيقٍ مع دولة الاحتِلال لتحقيق أهدافهما في القضاء على المُقاومة، وتنفيذ المطالب الإسرائيليّة كاملة، وإفساح المجال والوقت لجواسيس البلدين وأجهزة رصدهما.
ثانيًا: توسع جبهات القتال في البحر الأحمر من حيث تحريم سُفُن الاحتِلال والأخرى ناقلة البضائع والنفط له، من دُخول باب المندب تُجاه موانئه، ولعلّ إرسال قوّات المُقاومة الإسلاميّة العِراقيّة مُسيرّة لقصف حقل غاز “كاريش” اللبناني في البحر المتوسّط، علاوةً على تصعيد هجمات “حزب الله” على أهدافٍ عسكريّةٍ في الجليل الأعلى، هذا التوسّع أدّى، وسيُؤدّي أكثر، إلى تشتّت قوّات الاحتِلال من حيثُ قتالها على أكثر من جبهةٍ في الوقتِ نفسه.
ثالثًا: رفض أمريكا، ودولة الاحتِلال لمُعظم شُروط المُقاومة في وقفٍ فوريٍّ لإطلاق النّار وسحب جميع القوّات الإسرائيليّة من القطاع، والانخِراط بعد ذلك للخطوة الثّالثة، وهي التّفاوض من أجل تبادُل الأسرى، هذا الرّفض مُتعمّدٌ، ومدروس، لاعتقادٍ راسخٍ بأنّ العرب أغبياء ومن السّهل خديعتهم.
رابعًا: تسريبات صحافيّة تعكس ردًّا مُباشرًا على مطالب المُقاومة المذكورة آنفًا، وردّ مُعظمها في مقالٍ للكاتب الأمريكي اليهودي توماس فريدمان نشره أمس في صحيفة “نيويورك تايمز” يُمكن تلخيصه في عدّة نُقاط أبرزها: انسِحاب تام من القطاع مُقابل الإفراج عن جميع الأسرى الإسرائيليين، ووقفٍ دائم لإطلاق النّار بإشرافٍ أمريكيّ ودوليّ، وتأسيس إدارة محليّة لا وجود لحماس فيها، ودُون أيّ تبادل للأسرى في السّجون الإسرائيليّة.
توماس فريدمان لا يطرح هذه الأفكار من عِنديّاته، وإنّما يطرح أفكار إدارة بايدن المُقرّب جدًّا منها، ورئيسها، ويُحاول أن يلعب حاليًّا الدّور نفسه الذي قام به عندما أقنع العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز بطرح المُبادرة السعوديّة للسّلام (تحوّلت لاحقًا إلى مُبادرةٍ عربيّة) كأقصر الطُّرُق للخُروج من تداعيات هجمات الحادي عشر من سبتمبر التي جرى اتّهام تنظيم “القاعدة” بالوقوف خلفها، ومُشاركة 16 سعوديًّا فيها.
ربط شرط الانسِحاب بالإفراج عن الأسرى الإسرائيليين، ودُون تبيض السّجون الإسرائيليّة من الأسرى العرب يُجسّد خديعةً أخرى للفِلسطينيين لا تقلّ عن خديعةِ اتّفاقات أوسلو الكارثيّة، ومثلما كان الهدف من الأخيرة تحويل منظّمة التحرير إلى أحد الاذرع الأمنيّة للاحتِلال والتّنازل عن 90 بالمِئة من فِلسطين التاريخيّة، فإنّ هدف “مُبادرة” بايدن الجديدة وتابعه فريدمان، هو القضاء كُلِّيًّا على حركة “حماس” وجميع فصائل المُقاومة الأخرى في القطاع والضفّة الغربيّة، ووضعهما تحت الانتِداب الأمريكي الإسرائيلي المُشترك تحت وهم حلّ الدولتين، وتأليب الحاضنة الشعبيّة ضدّها، وامتِصاص الهزيمة الأكبر للاحتِلال يوم السّابع من تشرين أوّل (أكتوبر) الماضي.
المُقاومة في القطاع والضفّة هي صاحبة القرار الأوّل والأخير، ويجب أن تحظى بالدّعم كلّه من الفِلسطينيين وكُلّ الشّرفاء العرب والمُسلمين في العالم بأسره، لتصليب رفضها كُل هذه الأفكار المسمومة التي تُحاول أمريكا وإسرائيل تسويقها عبر الوُسطاء العرب، وسيف حرب الإبادة والتّطهير العِرقي.
الكيان انهزم في القطاع والضفّة، وكذلك في البحرين الأحمر والعربي، ومنصّات نِفطه في المتوسّط باتت أحدث الأهداف المُتوقّعة، إلى جانب التّحرير الوشيك للأراضي اللبنانيّة وللجليل عبر المُقاومة الإسلاميّة اللبنانيّة (حزب الله)، وسيتم إغلاق مُعظم المضائق، إذا لم يكن كلّها، في وجه سُفنه ومن يدعمه، ابتداءً من باب المندب، ومُرورًا بمضيق هرمز، وانتهاءً بجبل طارق.. والأيّام بيننا.
المصدر: رأي اليوم