عطوان: هذه هي الدّوافع الحقيقيّة التي دفعت أمريكا لاستِخدام “الفيتو” لمنْع وقف إطلاق النّار في غزة.. ولهذه الأسباب يَفرُكُ السنوار ورجاله أياديهم فرحًا في نفقهم “الملكي” في مكانٍ ما مِن فِلسطين.. وكيف صَنّف القِطاع ومُقاومته أمريكا رسميًّا دولةً إرهابيّة..!
أبين اليوم – مقالات وتحليلات
بقلم/ عبد الباري عطوان:
إذا أردنا أن نعرف الأسباب الحقيقيّة التي تقف خلف استِخدام أمريكا حقّ النّقض (الفيتو) لعرقلة مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي تقدّمت به دولة الإمارات وبدَعمٍ من السيّد أنطونيو غوتيريش أمين عام الأمم المتحدة يُطالب بوقفٍ فوريٍّ لإطلاقِ النّار في قِطاع غزة، فإنّ علينا أن نقرأ التّقرير “النّادر” الذي نشرته أمس السبت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيليّة عن ضخامةِ الهزيمة التي حلّت بالجيش الإسرائيلي وقِيادته بعد شهرين من المجازر وحرب الإبادة والتّطهير العرقيّ التي مارسها ضدّ المدنيين العُزّل في قِطاع غزة وأطفالهم.
الصّحيفة الأكثر توزيعًا في الكيان كشفت أن ما يزيد عن 5 آلاف جُندي إسرائيلي أُصيبوا مُنذ بداية الحرب في السّابع من تشرين أوّل (أكتوبر) الماضي، من بينهم 2000 تمّ الاعتِراف بهم رسميًّا كمُعاقين، وأكثر من 58 بالمِئة من هؤلاء إصاباتهم خطيرة جدًّا، وغير مسبوقة، وتتطلّب عمليّات بتْرٍ للأيدي والأرجُل والكُلى والطّحال، علاوةً على أمراضٍ نفسيّةٍ مُتفاقمة.
الإدارة الأمريكيّة بزعامة جو بايدن، والدّاعمة سياسيًّا وعسكريًّا وتسليحيًّا للكيان الإسرائيلي، تُدرك جيّدًا حجم هذه الهزيمة، التي تُشكّل هزيمةً مُباشرةً لها أيضًا، وتُصوّت ضدّ قرار وقف القِتال، والأكثر من ذلك تمنح الجزّارين الإسرائيليين أربعة أسابيع لمُواصلة القَتل والتّدمير على أمَل إكمال المَهمّة الدمويّة واللّإنسانيّة، وهزيمة حركات المُقاومة بزعامة حركة “حماس”، وهي منحة دمويّة بائسة.
هذا القرار “وصمةُ عارٍ” في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكيّة، ويفضح كُل ادّعاءاتها الكاذبة حول الديمقراطيّة وحُقوق الإنسان، وسيُؤدّي حتمًا إلى تهديد مصالحها في أماكنٍ عديدةٍ في العالم، وعلى رأسها العالمين العربي والإسلامي، وربّما تهديد وحدتها الداخليّة، وبَذْر بُذور الانقِسامات والتّعجيل بالحرب الأهليّة أيضًا.
مُواصلة الكيان لحرب الإبادة والتّطهير العِرقيّ في قِطاع غزة، السّجن الأضخم في العالم، لن يُؤدّي إلى هزيمة حركة “حماس”، ولا إلى استِسلام حاضنتها الشعبيّة الدّاعمة، أو تنفيذ مُخطّطات التّهجير لأبنائها، لأنّها تُؤمن بالمُقاومة، وتزداد دعمًا لرِجالها الذين حقّقوا الانتِصار الأكبر في تاريخ الحُروب العربيّة الإسرائيليّة، باقتِحامهم مُستوطنات غِلاف القِطاع، وتحريرها ولو مُؤقَّتًا، وقتل أكثر من 1200 جُندي ومُستوطن، وجرح ما يَقرُب من أربعة آلاف وتقويض أبرز الأُسس التي قامت عليها دولة الاحتِلال وعلى رأسِها الرّدع والأمن والاستَقرار والتفوّق العسكريّ والاستخباريّ.
أمريكا الشّريك الفِعلي والمُباشر في هذه الحرب، تتحمّل مسؤوليّة استِشهاد أكثر من 20 ألفًا من الأطفال والنّساء والمدنيين من أبناء القِطاع، وإصابة خمسين ألفًا حتّى الآن، وتهجير حواليّ المِليونين باتُوا مُشرّدين دُونَ مأوى، ويُواجهون المجاعة لانعِدام المُساعدات الغذائيّة، وغيابِ أبسطِ أُسس الحياة الأوّليّة من ماء، وكهرباء، ووقود، واتّصالات، فلولا إرسال حُكومة بايدن 2000 من رجال المارينز وإقامتها جِسْرًا جويًّا لنقل الذّخائر والصّواريخ والمُسيّرات وقطع الغيار والمعدّات العسكريّة لانهار هذا الكيان كُلّيًّا أو جُزئيًّا.
العُدوان الأمريكي الإسرائيلي على قِطاع غزة فشل في تحقيقِ أيٍّ من أهدافه، فلم “يُحَرّر” الأسرى الإسرائيليين، ولم يَقضِ على حركة “حماس” وفصائل المُقاومة الأخرى، وكُل أحاديثه عن السّيطرة على القِطاع أكاذيب فضحتها صواريخ المُقاومة التي تقصف تل أبيب وعسقلان وأسدود بصفةٍ يوميّة، فهذا الجيش الذي “لا يُقهَر” لم يُدمّر نفقًا واحدًا، ولم يُعِد أسيرًا واحِدًا، وحتّى مُحاولته الأخيرة بإرسال وحدة من القوّات الخاصّة لتحرير جُندي أسير انتهت بقتل هذا الأسير ومُعظم الجُنود المُهاجِمين، وتدمير ناقلتهم، والاستِيلاء على ما في حوزتهم من أسلحةٍ جرى عرضها أمام أجهزة الإعلام.
دولة الاحتِلال لا تُعلن أعداد قتلاها وجرحاها، وتفرض رقابةً عسكريّةً صارمةً على وسائل الإعلام الإسرائيليّة والأجنبيّة لحجب الحقائق عن مُستوطنيها المُنهارين نفسيًّا، والأرقام التي ذكرتها صحيفة “يديعوت أحرونوت” أرقامٌ أوّليّة، وقمّة جبل الجليد فقط، فالخسائر أضعاف أضعافها ولم يُعلن نِتنياهو وتابعيه الجِنرالين غالانت وغانتس، أي انتصار حتّى الآن، إلّا إذا اعتبرنا قتل الأطفال انتصارًا، ولكن ثلاثتهم لم يُنكروا وقوع خسائر باهظة جدًّا في صُفوف جيشهم ويعيشون أيامًا صعبةً ومُؤلمة.
هذا “الفيتو” الذي أكّد عُزلة أمريكا، وانفِضاض العالم من حولها، وتصنيفها كدولة إرهابيّة تدعم قتل أكثر من 7 آلاف طفل ورضيع، وقصف المُستشفيات والمساجد والكنائس، لن يُوقف أو يُقلّل من انتِصارات حركات المُقاومة في حرب غزة، بل سيزيدها عددًا وتأثيرًا، ويُفاقم من حالة الانهِيار التي يعيشها الكيان الإسرائيلي حاليًّا على الصُّعُدِ كافّة.
ربّما من المُبكر الاحتِفال بالنّصر، ولكنّه قادمٌ حتمًا بإذن الله، وعلى بُعد أقل من أسابيع، ونقول للطّابور الخامِس الذي نشر ثقافة الإحباط والفتن والاستِسلام على وسائط التواصل الاجتماعي، وركّز على أعداد الشّهداء في القِطاع، أنّ الشعب الجزائري البطل قدّم أكثر من مِليون شهيد في ثورته المُباركة ضدّ الاستِعمار الفرنسي، والأشقّاء في العِراق قدّموا مِليونين ونُظرائهم في أفغانستان ضِعف هذا الرّقم، فالعِبرةُ في النّتائج، وكُلّما كَبُرت الشّهادة كَبُرَ مفعولها، ورَحِمَ اللُه جميع شُهدائنا.
لا يُخامِرنا ادنى شك بأنّ صُمود المُقاومة وقادتها ومُجاهديها في الضفّة الغربيّة والقِطاع، وجنوب لبنان والعِراق وسورية واليمن العزيز هو أوّل بشائر هذا النّصر الكبير والمِحوريّ الوشيك، ولعلّ السيّد يحيى السنوار وأركان قِيادته يَفرُكون أياديهم فرحًا بإنجازاتهم في غُرفة عمليّاتهم في أحد الأنفاق “الملكيّة”، ربّما تحت سديروت أو عسقلان أو أسدود أو غزة أو أيّ مكانٍ آخَر، فكُلّها أراضي فِلسطينيّة ستعود حتمًا إلى أهلِها.. والأيّام بيننا.
المصدر: رأي اليوم