عطوان: كيف خدعت قِيادة حركة “حماس” الإسرائيليين بإيقاعهم في مِصيَدة الهُدَن المُؤقّتة؟ وكيف ارتكب نِتنياهو خطأ قُدوته بوش الابن بغزو أفغانستان وللأسبابِ نفسها؟ وما هو الثّمن الذي سيدفعه قريبًا جدًّا..!
أبين اليوم – مقالات وتحليلات
بقلم/ عبد الباري عطوان:
كان موقف قِيادة حركة “حماس”، وتحديدًا السيّد يحيى السنوار قائدها في قطاع غزة من مسألة المُفاوضات لتمديد الهُدَن والإفراج عن الأسرى حاسمًا، يعكس الثقة بالنفس، والاستِعداد لجميع الاحتِمالات، بِما في ذلك إطالة أمَدِ الحرب.
قِيادة حركة “حماس” في قطاع غزة خدعت نِتنياهو وحُكومته وجِنرالاته عندما جرّتهم جميعًا إلى مائدة المُفاوضات في الدوحة مُستغلّةً نُقطة ضعفهم تُجاه الأسرى المدنيين بسبب الضّغوط والمُظاهرات من قبل أهاليهم والمُتضامنين معهم، لثلاثة أسباب:
الأوّل: المُفاوضات غير المُباشرة حول الأسرى، كانت بين حركة حماس ودولة الاحتِلال الإسرائيلي، وبرعايةّ أمريكيّة، وهذا يعني اعتِراف الجانبين الأمريكي والإسرائيلي بحركة “حماس” كطَرفٍ رئيسيٍّ، وقوّةٍ عسكريّةٍ سياسيّةٍ إداريّةٍ حاكمةٍ للقِطاع، ممّا ينفي كُل الأقوال الأمريكيّة بانهِيارِ سُلطتها، وخُروج القِطاع عن سيطرتها، والبَدء فِعليًّا بالبحث عن البدائل، وسُقوط كُل تشبيهاتها بداعش أو “القاعدة”.
الثاني: حركة “حماس” وقِيادتيها العسكريّة والسياسيّة في القِطاع كانت تُريد التخلّص من عبء الأسرى الأطفال والنّساء الأمني والمعيشي الباهِظ التّكاليف، فهؤلاء الذين يعدّون بالعشرات، يحتاجون إلى طعامٍ ودواءٍ ورعايةٍ صحيّة، ووفاة أيّ منهم في الأسْر سيكون مُكلفًا جدًّا من النّاحيةِ الإعلاميّة والدعائيّة وورقة رابحة للإعلام الإسرائيلي وربّما الدوليّ أيضًا.
الثالث: التِقاط الأنفاس، وإعادة التّموقع، والحُصول على هُدنةٍ للحُصول على الوقود والأدوية، ورصد مواقع العدوّ العسكريّة داخِل القِطاع لوضع الخُطط اللّازمة لمُواجهتها.
السنوار هو الذي وضع حدًّا لإستمرار المُفاوضات والهُدَن لأنّه يُريد وقفًا كاملًا لإطلاق النّار، وأن لا تبدأ المُفاوضات حول الأسرى العسكريين إلّا بعد الوصول إليه، فالهُدَن القصيرة كانت مرحلةً أوّليّةً، ومحصورةً بالإفراج عن المدنيين، والنّساء والأطفال في الجانبين، ولتثبيت شرعيّة القِيادة الحمساويّة، أمّا المرحلة الثانية، أي تبادل الأسرى العسكريين، مُختلفةٌ كُلِّيًّا، وستُركّز على تحقيق شرط المُقاومة، أيّ الجميع مُقابل الجميع، وتبييض السّجون الإسرائيليّة بالكامِل.
الشّعب الفِلسطيني كان يعيش فراغًا عُنوانه الأبرز عدم وجود قِيادة فِلسطينيّة صلبة، واعية، تعرف الجانب الإسرائيلي جيّدًا ومن الدّاخل، نُقاط قوّته وضعفه، ويبدو أن قِيادة القِطاع الحاليّة المُتمثّلة في السيّد السنوار وتوأمِهِ الجِنرال محمد الضيف بات يُشكّل هذه القِيادة ويملأ هذا الفراغ، ومن أبرز ميّزاتها، بالإضافة إلى الصّفات المذكورة آنفًا المُجسّدة فيهما، أنّ الرّجلين يعرفان إسرائيل جيّدًا، ولا يُريدان معرفة الجانب العربي، وزعاماته خاصَّةً، فلم يُغادرا القِطاع إلّا نادرًا (السنوار زار القاهرة مَرّةً واحدةً على ما أعتقد، وقبل أن يتولّى قِيادة حماس في القِطاع)، ولا يخضعان لأيّ تأثيرٍ من أيّ عاصمةٍ عربيّة، وهذه صفات حميدة ربّما تقف خلف إدارتهما الجيّدة للحرب الحاليّة ضدّ الاحتِلال في القِطاع.
معركة ما بعد إنهيار الهُدنة بدأت بارتكاب المجازر الدمويّة ضدّ المدنيين، وفي المناطق الشماليّة والجنوبيّة معًا، وخاصَّةً في النصيرات والبريج ودير البلح وخان يونس ورفح، وهي المناطق التي من المُفتَرض أن تكون آمنةً حسب الوعود الإسرائيليّة، ولكن “إسرائيل” لا تلتزم بالاتّفاقات والوعود، بدعم من الولايات المتحدة، وتنسيقٍ كامِل من قِبَل وزير خارجيّتها اليهودي أنتوني بلينكن الذي أعطى الضّوء الأخضر لنِتنياهو لبدء الحرب على القِطاع أثناء زيارته الأولى بعد هُجوم السّابع من تشرين أوّل (أكتوبر) الماضي، وفي زيارته الرّابعة قبل يومين للعودة إليها، أيّ الحرب، بعد انهِيار الهُدنة، فقد أعلن أثناء الزّيارة أنه لا يُعارض عودة العمليّات العسكريّة ضدّ “حماس” وكُل ما يُطالب به هو أن لا تُسَبِّبْ النّزوح الجماعي للسّكّان، حتّى لا تخسر أمريكا مِصر والأردن أقرب حليفين لها في المِنطقة، ونظاميّ الحُكم فيهما، والادّعاء بحرصِ أمريكا على المدنيين في القِطاع تخفيفًا للانتِقادات العالميّة المُتزايدة المُوجّهة إليها حاليًّا.
“إسرائيل” غرقت في وحلِ غزة، ولن تَخرُج منه وجيشها إلّا مهزومةً، ليس نحنُ الذين نقول هذا الكلام انطِلاقًا من معرفتنا للقِطاع ولفصائل المُقاومة، وإنّما ما يقوله أيضًا لويد أوستن وزير الدفاع الأمريكي، ويُؤكّده توماس فريدمان الكاتب في صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكيّة والخبير في شُؤون الشّرق الأوسط الذي عمل مُراسِلًا للصّحيفة نفسها في بيروت لعدّة سنوات.
المناطق العازلة التي تُحاول دولة الاحتِلال إقامتها على طُول الحُدود مع القِطاع أحد الأدلّة عن البحث المُستَميت عن أيّ إنجازٍ تقوم حُكومة نِتنياهو بتسويقه إلى الرّأي العام المرعوب والمُعارض مُعظمه لهذه الحرب، فإذا كان السّور الإسمنتي والإلكتروني الحُدودي مع القِطاع الذي كلّف بِناؤه مِلياريّ دولار لم يمنع تسلّل مُنفّذي هُجوم تشرين التّاريخي، وتحرير أكثر من خمسين مُستوطنة وبلدة، ويحول دون قتل 1200 جُندي ومُستوطن، وإصابة 3000 آخَرين، وأسْر 250 بينهم جِنرالات وجُنود، فهل ستمنع المناطق العازلة تِكرار هذه الهُجوم مُستَقبلًا، أو حتّى تمنع البالونات الحارقة ولا نقول الصّواريخ والمُسيّرات وحتّى الطّائرات الشّراعيّة؟
حرب تمّوز عام 2006 التي قادتها المُقاومة اللبنانيّة ضدّ دولة الاحتِلال أذلّت الجيش الإسرائيلي وكشفت نُقاط عُيوبه، وأفقدته صفة “الجيش الذي لا يُهزَم” وجاءت حرب تشرين الحاليّة في قِطاع غزة لتُفقِده ردعه، وتفوّقه، وما تبقّى من سُمعته إلى الأبد.
حركات المُقاومة الإسلاميّة في قطاع غزة حقّقت بُطولات إعجازيّة يوم الأحد وألحقت خسائر بشريّة وماديّة ضخمة بجيش الاحتِلال، اعترف بها المُتحدّثون باسمه على استحياء، وبالتّقسيط، علاوةً على تحويل الشجاعيّة وبيت حانون ودير البلح وخان يونس إلى مقبرة للدبّابات والمُدرّعات.
“إسرائيل” ارتكبت الخطأ نفسه الذي ارتكبته حاميتها وحاضنتها أمريكا في أفغانستان، التي غزَتها الأخيرة من مُنطلق الثّأر “لغزوة” نيويورك في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، ومثلما خرجت أمريكا مهزومةً مُهانةً (أروع تصوير للهزيمة وما حدث في مطار كابول أثناء الهُروب الكبير)، سيَخرُج الجيش الإسرائيلي من قِطاع غزة مُثْخَنًا بالهزائم والخسائر، وسيكون هذا الخُروج مُقدّمة للخُروج النّهائي، وانهِيار المشروع الصّهيوني برمّته.. والأيّام بيننا.
المصدر: رأي اليوم