عطوان: لهذه الأسباب ينتصر زعيمٌ فِلسطينيٌّ مُختَلفٌ اسمه يحيى السنوار ورِجاله الجبابرة وحاضنتهم الوطنيّة الدّافئة..!
أبين اليوم – مقالات وتحليلات
بقلم/ عبد الباري عطوان:
ربّما يكون من السّابق لأوانه إصدار أحكام قاطعة بشأن تقييم الخمسين يومًا الأُولى من العُدوان الإسرائيلي على قِطاع غزّة وتبعاته، وإعطاء تصوّرٍ واضح عن مرحلةِ ما بعد هدنة الأيّام الأربعة التي بدأت أمس الجمعة وتضمّنت الدّفعة الأولى من الأسرى، ولكن ما يُمكن قوله حتّى الآن، إن القائد يحيى السنوار “مُهندس” هذه الحرب، ومُطلق شرارتها الأولى، باجتياح مُستوطنات غِلاف قِطاع غزة في السّابع من تشرين أوّل (أكتوبر) الماضين حصل على كُل ما يُريد بعد فرض شُروطه كاملةً، واستطاع بدهاءِ الواثِق أن يخدع المؤسّسة الإسرائيليّة الحاكمة، بشقّيها العسكريّ والسياسيّ، رُغمَ الفارق الكبير جدًّا في الإمكانيّات الماليّة والعسكريّة.
السيّد السنوار وذِراعه اليمين محمد الضيف القائد العسكري لكتائب القسّام، أدارا هذه الحرب التي جرى الإعداد لها جيّدًا على مدى ثلاث سنوات، وبطُرقٍ علميّة وعمليّة جبّارة، واستِنادًا إلى معلوماتٍ استخباريّة دقيقة أذهلت الأعداء والأصدقاء معًا، بينما أدارتها القيادة الإسرائيليّة مُتمثّلةً في الثلاثي: نِتنياهو، غانتس، غالانت، بعقليّة انتقاميّة ثأريّة، ولهذا كانت الخسائر الإسرائيليّة ضخمةً على مُعظم الصُّعُد العسكريّة والسياسيّة والدبلوماسيّة، ولم يتم تحقيق أيّ من الأهداف التي شنّت الحرب من أجلها، وأبرزها تدمير حركة “حماس” وباقي فصائل المُقاومة الأُخرى بعد 47 يومًا من القصف السّجّادي التّدميري الوحشي للمدنيين العُزّل.
القاعدة العسكريّة تقول إن مِعيار النّصر والهزيمة في الحُروب ليس بأعدادِ القتلى والجرحى، وإنما بكيفيّة الإعداد لها أوّلًا، وإدارتها ثانيًا، ووجود قيادة صلبة ثالثًا، فأعداد القتلى الفيتناميين أكثر عشرين مرّة بالمُقارنة مع نُظرائهم الأمريكان ومع ذلك كانَ النّصر من نصيبهم، أيّ الفيتناميين، في نهاية المطاف، والشّيء نفسه يُقال عن الطّالبان في أفغانستان، والتّاريخ مليءٌ بالأمثلةِ في هذا المِضمار.
ما يُميّز الحرب الحاليّة في قِطاع غزة، عن كُل الحُروب العربيّة السّابقة ضدّ دولة الاحتِلال الإسرائيلي، يتمثّل في القيادة، ونحن نتحدّث هُنا عن الجانب الفِلسطيني تحديدًا، فربّما تكون المَرّة الأُولى، مُنذ عقود، التي يقود فيها الشّعب الفِلسطيني قائدٌ تتوافر فيه مُعظم، إن لم يكن كُل، صِفات القيادة الحكيمة الرّشيدة، ونحنُ نتحدّث هُنا، ودُونَ أيّ مُواربة، عن السيّد السنوار ومُواصفاته التي أذهلت، ومن ثمّ صدمت دولة الاحتِلال وجِنرالاتها قبل سياسيّيها، مثلما صدمت عرّابها جو بايدن وجِنرالاته أيضًا.
أهم الصّفات القياديّة المُتميّزة التي يتحلّى بها السيّد السنوار قُدراته، وعدم تردّده في اتّخاذ قرار الحرب، وتنفيذه في الوقت المُناسب، بعد الاستِعداد الجيّد له عسكريًّا، واستخباريًّا، إلى جانب “عُنصر المُباغتة”، واللّجوء إلى أعلى درجاتِ التّكتّم، وحَصْرِ السِّرّ في دائرةٍ ضيّقةٍ جدًّا من الثُّقاة الثُّقاة، ولا نكشف سِرًّا عندما نقول إن قيادة “حماس” الموجودة في الخارج، ومن مُختلف الألقاب والمسؤوليّات، لم تكن على علمٍ مُسبَقٍ لا بقرار هُجوم السّابع من تشرين أوّل (أكتوبر)، ولا حتّى بالاستِعداد له، مثلما كشف لنا أحد المصادر المُقرّبة جدًّا من قيادة كتائب القسّام.
المُشكلة الأبرز التي واجهها الشّعب الفِلسطيني طِوال المِئة عام الماضية من عُمُرِ القضيّة الفِلسطينيّة، وتحديدًا مُنذ صُدور وعد بلفور، غِياب القِيادة بعيدة النّظر التي تتوحّد فيها الحنكة الإداريّة والقِيادة مع الاستِعداد الجيّد، وعدم الرّهبة من العدوّ مهما بلغت قُدراته العسكريّة والدّعم الدوليّ أو الإقليميّ العربيّ له بشَكلٍ مُباشر أو تحت الطّاولة، وهذا لا يعني التّقليل من شأن بعض القِيادات الفِلسطينيّة التاريخيّة، أو عدم تفهّم الظّروف المُحيطة بها في زمانها، مع إيماننا في الوقتِ نفسه بقاعدة التراكميّة والتّسَلسُل.
القِيادة الفلسطينيّة الحاليّة المُتمثّلة في الثنائي السنوار والضيف، هي التي يحتاجها الشّعب الفِلسطيني في الوقتِ الرّاهن، وكان انتِصارها الأوّل على الكيان مُزلزِلًا، فقد نجحا بنقل الحرب إلى عُمُقِ هذا الكيان في سابقةٍ لم تحدث في أيّ من حُروب العرب الخمس الرئيسيّة، أو الأُخرى الفرعيّة، وقتلوا 1400 مُستوطن، وأسروا حواليّ 240 شخصًا، بينهم جِنرالات كِبار، والأهم من ذلك تدمير مُعظم الأُسس التي بنى عليها قادة الاحتِلال دولتهم، وهي الهيبة، والرّدع، الأمن، الاستِقرار، والتفوّق العسكري، والتّعاطف والدّعم الدوليين.
قُبول نِتنياهو وجِنرالاته بالتّفاوض على شُروط الهدنة يعني أوّل مظاهر الهزيمة، والرّضوخ لشُروط السيّد السنوار ومُساعديه، والاعتِراف بهم وحركتهم، بعد أن كان يهزأ بهم، ويتوعّد بتدميرهم، ويستخدم توصيفات تُقلّل من شأنهم، مِثل “داعش” و”القاعدة” ليعود ويتراجع عنها بشَكلٍ مُهين.
نِتنياهو ورهطه وقَعوا في مِصيدة السنوار، وأعماهم غُرورهم وغطرستهم عن التّقييم الدّقيق للخصم الذي استَفاد من إخفاقاتِ وأخطاء جميع القادة الفِلسطينيين السّابقين، الذين ورّطوا الشّعب الفِلسطيني في اتّفاقات أوسلو، وخطيئة التّنسيق الأمني، ووضع كُل بيضهم في سلّة أمريكا وأوروبا، وما يُسمّى بالمُجتمع الدولي، استِجداءً لعطفهم وصدقاتهم، فقادة الشّعب الفِلسطيني الجُدُد لا يركبون السيّارات الفارهة، والطّائرات الخاصّة، ويعيشون تحت الأرض.
جميع أجهزة الاستَخبارات الإسرائيليّة، ومعها نظيراتها الأمريكيّة، وكُل أقمار التجسّس التّابعة للأخيرة فشلت في تحديد مكان السيّد السنوار، وأفراد قيادته، أو غُرفة عمليّاته، والأنفاق التي تُؤدّي إليها، أو مصانع الصّواريخ والمُسيّرات تحت الأرض، وبالأمس انسحبوا من مجمّع الشفاء الطبّي الذي قالوا إن غُرفة عمليّات السنوار تحته، واليوم يقولون إنها قد تكون في مكانٍ ما في جنوب القِطاع، في تخبّطٍ واضحٍ لا يحتاج إلى إثباتٍ، وربّما استِعدادًا لحربِ إبادة، وتطهيرٍ عرقيٍّ جديدة، وسيدفعون ثمنًا باهظًا من حيث الانتِقام لكُل رُوح شهيد، آجِلًا أو عاجلًا، فالشّعب الفِلسطيني لا ينسى ولا يَغفِر.
لا نقرأ الفنجان، ولا نملك بلّورةً سحريّةً للتنبّؤ بمُفاجآت اليوم الخامس الذي سيأتي بعد انتهاء هدنة الأيّام الأربعة حربًا أو تجديدًا، وإنْ كُنّا نُرجّح الخِيار الأخير، أيّ التّجديد، قِياسًا على حُروبٍ سابقة، وخاصَّةً اليمن وإيرلندا الشماليّة، مع الفارِق الكبير في الظّروف والأطراف المُشاركة فيهما، والأسباب المُفجّرة، لهُما، ولكن ما يهمّنا التّأكيد على وجود قِيادة فِلسطينيّة مُختلفة، تتّسم بالشّجاعة، وتتزعّم حركات مُقاومة مُتطوّرة تتطلّع للشّهادة بشَوقٍ واستِعجال، تعكس مرحلة جديدة في ثقافة المُقاومة، ووجود حاضنة شعبيّة مُتماسكة وداعمة، ودافئة، وهذا ما يُفسّر حالتيّ القلق والإحباط في صُفوف الإسرائيليين، قِيادةً ومُستوطنين.
كُل يوم يعيشه السيّد السنوار وتوأمه الجِنرال الضيف يعكس جعجعة نِتنياهو وتهديداته باغتِيالهما طِوال السّنوات الخمس الماضية.
“إسرائيل” الصّغرى تنعكس رُعبًا وجُغرافيًّا، والكُبرى تتبخّر وأصبحت ماضي ليس بسبب الجُيوش العربيّة وجِنرالاتها، وإنّما بسبب المُقاومة الفِلسطينيّة والدّعم الشّعبي العربيّ لها، واحتِمالات التّغيير القادم في المِنطقة العربيّة التي ستَجرِف مُعظم الزّعماء والأنظمة، إن لم يكن كلّها على غِرار نكبة عام 1948.
من المُؤكّد أن السيّد السنوار يفرك يديه فرحًا في “غُرفةٍ ما” بأحد أنفاق غزة بعد فرضه لجميع شُروطه، وفشل جيش الاحتِلال وقادته في تحقيق أيّ من الأهداف التي شنّوا الحرب لتحقيقها، إنه زمن صُعود المُقاومة ومن خلفها شُعوب الأمّتين العربيّة والإسلاميّة، ونُكرّر للمرّة الألف بأنّ بداية النّهاية للمشروع الصّهيوني بدأت والانهِيار الكامِل لم يَعُد بعيدًا.. والأيّام بيننا.
المصدر: رأي اليوم