عطوان: النيجر انتصرت.. وماكرون انهزم واضْطُرّ ذليلًا لسحبِ قوّاته وسفيره من النيجر.. ما هي الأسباب الخمسة التي أدّت إلى هذا الانتِصار؟ وهل يُولَد النظام العالمي الجديد في القارّة الإفريقيّة.. وكيف..!

3٬807

أبين اليوم – مقالات وتحليلات

بقلم/ عبد الباري عطوان:

رَضَخَ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مُكْرَهًا، واستسلم أخيرًا لإرادة المجلس العسكريّ بقِيادة الجِنرال عبد الرحمن تياني، بإعلانه الأحد الماضي سحب سفير بلاده، وجميع قوّاته (1500 جُندي) من دولة النيجر بعد مُواجهةٍ سياسيّةٍ، كادَت تتطوّر إلى عسكريّة طِوال الشّهرين الماضِيين، وانتَصرت إرادة الشّعب النيجري في نهايةِ المَطاف.

الرئيس ماكرون كان يُراهن على التدخّل العسكريّ لما يُسمّى بالمجوعة الاقتصاديّة لدُول غرب إفريقيا (إيكواس) للإطاحة بالمجلس العسكري الحاكِم بالنيجر وإعادة الرئيس محمد بازوم المُتّهم بالفساد والتبعيّة لفرنسا إلى سُدّة الحُكم، ولكنّ هذا الرّهان فشل بسبب صلابة، وصُمود قادة “الثورة التصحيحيّة” والدّعم الشّعبي لها ولمجلسها العسكري، وتراجُع دول المجموعة الاقتصاديّة المذكورة (إيكواس) عن تنفيذ تهديداتها بغزو النيجر، خَوفًا ورُعبًا من الهزيمة شِبه المُؤكّدة، وذهبت خطواتها “البهلوانيّة” الإستعراضيّة بحشد جُيوشها واجتِماعات رؤوساء أركانها لأداء هذه المَهمّة أدراج الرّياح، فلُغة التّهديد والوُعود بدعامةٍ استعماريّةٍ لم تَعُد تُعطي أُكُلَها هذه الأيّام.

خمسة أسباب رئيسيّة تقف خلف انتِصار المجلس العسكريّ وانقِلابه في النيجر يُمكن تلخيصها في النقاط التالية:

أوّلًا: تصاعُد الكراهية والنّقمة الشعبيّة ضدّ فرنسا ومشاريعها الاستعماريّة في جميع أنحاء القارّة الإفريقيّة دُونَ استِثناء، بعد أن تكشفت الحقائق عن سرقاتها للثّروات الوطنيّة مِثل النفط والغاز واليورانيوم والذّهب والفوسفات، وترك الشّعوب تتضوّر جُوعًا، ولا تملك الحدّ الأدنى من الخدمات الأوّليّة.

ثانيًا: سُقوط مفهوم الديمقراطيّة الغربيّة “المُزوّرة” الواجهة الاستعماريّة للهيمنة الغربيّة في القارة السّوداء، بعد ارتِباطها بالأنظمة الفاسِدة، وانفِضاح التّوظيف الفرنسيّ والأمريكيّ لها لنهب الثّروات وتجويع المُواطنين.

ثالثًا: الالتِفافُ الشعبيّ حول “الانقِلابيين” العسكريين الجُدُد الذين جاءوا من رَحِمَ الشّعب، وعدم ظُهور أيّ نداءات أو استغاثات من قِبَل نسبة كبيرة من الشّعب النيجري بالتدخّل العسكريّ ضدّ “الثوّار” العسكريين الجُدُد، سواءً من فرنسا أو من نيجيريا وجُيوش منظومة “إيكواس” التي تتزعّمها وتُدار بالرّيموت كونترول من باريس.

رابعًا: تضامُن ودعم دُول جِوار النيجر مِثل مالي وبوركينا فاسو، وأخيرًا الغابون، للمجلس العسكري الذي سارَ ضبّاطه على نهجها ومجالسها العسكريّة في إسقاط الأنظمة الفاسِدة فاقدة السّيادة، وتعهّد قِيادات هذه الدّول بالقِتال إلى جانِب زُملائهم في نيامي لصدّ أيّ غزوٍ عسكريٍّ من فرنسا أو عُملائها في القارّة الإفريقيّة.

خامسًا: صلابة الجيش النيجري وقيادته الوطنيّة الشّابّة في وجْه التّهديدات الفرنسيّة، ورفضهم الوِساطات المشبوهة بقُبول الحُلول الوسط، وتمسّكهم بالتّالي بكُلّ شُروطهم، وأبرزها طرد السّفير الفرنسي، وقوّاته من عاصمتهم نيامي، باعتِبار وجودهم تهديدًا للسّيادة الوطنيّة، وحاصَروا السّفارة والقواعد الفرنسيّة ومنع الماء والغذاء عنها لرفض أوامرهم بالمُغادرة بعد نزْعِ حصانتهم الدبلوماسيّة، وإلغاء كُلّ المُعاهدات الدّفاعيّة التي وقّعها النّظام “الدّيمقراطي” الفاسِد مع فرنسا.

الرئيس ماكرون الذي كان يرعد ويزبد، ويتصرّف مِثل الطّاووس في إطلاق التّهديدات، وفرض الحِصارات، والعُقوبات الاقتصاديّة، تراجع مِثل الذّليل، واضْطُرَّ للاعتِراف بالسّلطة الشرعيّة الجديدة في النيجر، والتّنسيق معها لتأمين انسِحابٍ آمِنٍ لقوّاته العسكريّة، وطاقِمه الدبلوماسيّ، إنّها لُغة القوّة التي يفهمها الاستِعمار الغربيّ، بأشكاله القديمة والحديثة، وتُعطي ثِمارها دائمًا بهَزيمةٍ في نهاية المطاف.

لم يُجانب سيرغي لافروف وزير الخارجيّة الروسي الصّواب عندما أكّد في خِطابه أمام الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة قبل بضعة أيّام “بأنّ النظام العالمي الجديد، مُتعدّد الأقطاب، يُولَد ويتطوّر امامنا”، ولكنّه لم يَقُل إنّ هذه الولادة تتم في الأراضي الإفريقيّة، وبدَعمٍ من وعي شُعوبها، وإنّ “القابلة” هذه المرّة ليست فرنسيّة أو أمريكيّة، وإنّما صينيّة وروسيّة ووطنيّة محليّة، ستُنهي الإرث الاستِعماري الغربي القديم الذي هيمن على القارّة لأكثرِ من أربعةِ قُرون.

أنتوني بلينكن وزير الخارجيّة الأمريكي، اعترف أيضًا في تصريحاتٍ مُماثلةٍ بهذه الحقيقة، ولكنّه قال إن هذا النظام العالمي الجديد الزّاحف سيكون تحت السّيطرة الأمريكيّة الغربيّة، الأمر الذي يُؤكّد جهله، وحُكومته بالتطوّرات العالميّة على الأرض، المُغايرة لهذه النّبوءة، وتمسّكه بالغطرسة المُتعجرفة، التي كانت من أسباب انهِيار النّظام العالمي القديم بزعامة الغزو الصيني للقارّة الإفريقيّة، بجُيوشٍ من رجالِ الأعمال والخُبراء، مُسلّحة بمِئاتِ المِليارات من الدّولارات لبناء البُنى التحتيّة وتمويل المشاريع الاستثماريّة، مثلما تجهل أيضًا أنّ نصيب روسيا من سُوق السّلاح الإفريقي يزيد عن 40 بالمِئة، وهو السّلاح الذي سيحمي السّيادة ويُعمّق جُذورها ويتصدّى لأيِّ غزوٍ خارجيّ.

الثورات، ولا نقول الانقِلابات، التي تجتاح القارّة الإفريقيّة هذه الأيّام وتجتثّ الإرث الاستِعماري الفرنسي والأمريكي من جُذوره، هي “ثورات تصحيحيّة” بقِيادة جِنرالات شابّة، هدفها الأوّل استِعادة السّيادة الحقيقيّة، والقضاء على الفقر، بقَطعِ دابِرِ الفساد والفاسِدين، وإعادة الثّروات إلى الشعوب المسحوقة، ومِن المُؤكّد أن الخطوة التالية ستكون تسليم الحُكم لمن يختاره الشّعب في انتِخاباتٍ حُرّةٍ على طريقة نيلسون مانديلا، والجِنرال سوار الذهب، فالشّعوب باتت على درجةٍ عاليةٍ من الوعي، وتنحازُ إلى النظام العالمي الجديد الذي ينهض من وَسَطَ رُكامِ الهزيمةِ الاستعماريّةِ الغربيّة.. والأيّام بيننا.

 

المصدر: رأي اليوم

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com