عطوان: المُقاومة تنتصر في جنين.. والعِبرَةُ ليست بالأرقام.. وعمليّة الدّهس والطّعن في قلب تل أبيب هي ردّ فِعل أوّلي على عُدوان التطهير العِرقي.. لماذا فاجأنا انتِقام السّلطة “العظيم” أكثر من الموقف الأمريكي “المُقزّز” واستحقّت منّا الشّكر..!

5٬905

أبين اليوم – مقالات وتحليلات

بقلم/ عبد الباري عطوان

يُمارس تساحي هنغبي المُستشار القومي الإسرائيلي أبشع أنواع الكذب والتّضليل عندما يُمهّد لإنهاء جيشه للعمليّة العسكريّة التي يشنّها على مُخيّم جنين، بالقول إنها تقترب من تحقيق جميع أهدافها المُحدّدة.

يكذب لأنّ الهدف الأبرز والأساسي، أيّ القضاء على المُقاومة في المخيّم، لم يتحقّق، ولن يتحقّق طالما أنّ هُناك احتلال، وشعب يُقاوم هذا الاحتِلال ومُستَعدٌّ لتقديم التّضحيات بالأرواح والدّماء.

سمعنا مِثل هذه التّصريحات ومُنذ اليوم الأوّل للاحتِلال، وبعد اجتِياحات مُتعدّدة للمخيّم الذي لا تزيد مِساحته عن نِصف كيلومتر مربّع، وخرجت المُقاومة من بين الرّكام كُلّ مرّةٍ أكثر قُوّةً وخبرةً وصلابةً.

المُقاومون الأسود الذين تصدّوا لأكثر من 150 دبّابة ومُدرّعة، وأسقطوا أربع طائرات مُسيّرة، وقدّموا عشرة شُهداء، وأكثر من مئة جريح، بينما كانت خسائر الجيش المُدرّع المُهاجم المحمي بالمُسيّرات والطّائرات العموديّة، أضخم من ذلك عشرات المرّات، ونحن لا نتحدّث هُنا عن أرقامِ القتلى والجرحى التي يتكتّم عليها العدوّ الذي يفرض رقابة عسكريّة شرسة على وسائل الإعلام، وإنّما عن الخسائر المعنويّة والنفسيّة ووقعها الكبير على المُستوطنين وقيادتهم الذين اعتَقدوا أن الشعب الفِلسطيني استسلم ورفع الرّايات البيضاء، وبات يبحث عن الهُدوء مُقابل الهُدوء مثلما تستجدي بعض قِياداته في الضفّة والقِطاع، فالخسائر الفِلسطينيّة كانت وما زالت من السّهل تعويضها، وبِما هو أقوى منها، فماذا يعني خسارة مخزن أسلحة هُنا، أو معمل تحت الأرض لتصنيع العُبوّات النّاسفة، فالعُقول التي تقف خلف هذه المخازن موجودة، وحتّى إذا استشهدت، فإنّ هُناك عُقول أُخرى جبّارة تستكمل المسيرة.

مُخيّم جنين يُواجه حملات تطهير عِرقي عسكري، تتمثّل في إجلاء الآلاف لتفريغه من سُكّانه، وتأتي الجرّافات لكي تفتح “أوتوسترادات” في وسطه لتسهيل اقتِحامات الدبّابات والمُدرّعات له، تمامًا مثلما فعَل الجِنرال إرييل شارون عندما كان حاكِمًا عسكريًّا لقِطاع غزّة بعد احتِلاله عام 1967، وتصاعد المُقاومة فيه حيث رحّل آلاف الأُسَر إلى رفح المِصريّة، لتخفيف الكثافة السكّانيّة.

المُقاومة الفِلسطينيّة هزمت الجِنرال شارون وقوّاته العسكريّة وأجبرته على الانسِحاب من القِطاع بالقُوّة عام 2005، وتفكيك مُستوطناته (17 مُستوطنة)، والهُروب في ليلة ليس فيها ضُوء قمر، والمشهد نفسه سيتكرّر قريبًا جدًّا، ليس في مُخيّم جنين فقط، وإنّما في الضفّة الغربيّة، وكُل الأراضي العربيّة الفِلسطينيّة المُحتلّة.

هذه الانتِفاضة المُسلّحة التي يقودها الأسود، والنمور والفهود، ليست محصورةً في مخيّم جنين، عاصمة المُقاومة والكرامة والشّرف، وإنّما في كُلّ مُدُن الضفّة وقُراها وبلداتها، ولن يقضي عليها اقتِحامٌ هُنا، أو هُناك، بالدبّابات والمُدرّعات والمروحيّات والمُسيّرات، فهذه ثورةٌ مُستمرّةٌ ضدّ احتِلالٍ عُنصريٍّ فاشيٍّ، ولن تتوقّف حتى تجتثّه من جُذوره.

عمليّة الدّهس والطّعن التي نفّذها أبناء “القسّام” قي قلب تل أبيب اليوم وأدّت إلى إصابةِ ثمانية مُستوطنين مُعظمها إصابات خطيرة، هي الثّأر السّريع والأوّلي لمجازر الجيش الإسرائيلي في جنين، ومن المُؤكّد أنها البداية، ويكفي الإشارة، وبسُرعةٍ أن حركة “حماس” التي أعلنت انتِماء مُنفّذها لصُفوفها فد نفّذت أربع عمليّات استشهاديّة في تل أبيب، والخضيرة، والقدس المُحتلّة انتِقامًا لاغتَيال الشّهيد يحيى عياش عام 1995، فكيف سيكون الثّأر لاقتِحام مخيّم وارتكاب المجازر ضدّ أهله، واستِشهاد عشرة من المُدافعين عنه؟

لم نُفاجأ بالموقف الأمريكي “المُقرف” و”الهمَجي” الدّاعم لمجازر الجيش الإسرائيلي في مخيّم جنين، مُقرفٌ ويُثير الاشمِئزاز لأنّه صادرٌ عن دولةٍ عُظمى تدّعي أنها تتزعّم العالم الحُر؟ وتصف نفسها بالمُدافع الأكبر عن السّلام وحُقوق الإنسان، والحُريّات الأساسيّة، ولكنّنا فُوجئنا أكثر بموقف، وردّة فِعل السّلطة “الوطنيّة” الفِلسطينيّة في رام الله على هذا الاقتِحام الإسرائيلي، وما ترتّب عليه من مجازر.

نبدأ بالبيان الرّسمي الصّادر عن الإدارة الأمريكيّة وننقُل هُنا حرفيًّا: “نحترم حقّ إسرائيل في الدّفاع عن النّفس.. لكن يتعيّن تجنّب سُقوط ضحايا من المدنيين”، فأيّ دفاعٍ عن النّفس الذي يتحدّث عنه هذا البيان، وضدّ أيّ مُعتَدٍ؟ فهل مُقاتلي مخيّم جنين هُم الذين أرسلوا الدبّابات والمُدرّعات والطّائرات المروحيّة والمُسيّرات والجرّافات إلى تل أبيب واعتدوا على مُستوطنيها، وأرهلوا أطفالها، وجرّفوا منازلها، ورحّلوا سُكّانها، يا زُعماء نشر الديمقراطيّة وقيم العدالة وحُقوق الإنسان؟

أمّا إذا انتقلنا إلى السّلطة الفِلسطينيّة التي تدّعي أنها المُمثّل الشّرعي والوحيد للشّعب الفِلسطيني، والمسؤولة عن حِمايته، وإقامة دولته المُستقلّة، فقد كان رد فِعلها “مُرعِبًا” للاحتِلال، ويرتقي إلى مُستوى العُدوان ومجازره إن لم يكن أكثر، حيث أعلن المُتحدّث باسمها، لافُضّ فُوه، أنّها قرّرت، أيّ السّلطة، عدم الالتِزام بالتّفاهمات التي توصّلت إليها مع دولة الاحتِلال في العقبة وشرم الشيخ، ما شاء الله، موقفٌ عظيمٌ مُشرّفٌ، يُثلِج صدر الشّعب والمُقاومة معًا، ويُؤكّد أن التّحرير وشيكٌ جدًّا.

شُكرًا للإدارة الأمريكيّة على “فزعتها” لحَماية حُقوق الإنسان، والحِفاظ على أرواح أهالي مخيّم جنين الأبرياء العُزّل، وشُكرًا للسّلطة الفِلسطينيّة ورئيسها وجِنرالاتها وقوّاتها الأمنيّة (60 ألفًا) على هذه المواقف الندّيّة القويّة المُتصدّية للعُدوان على مخيّم جنين، انتِصارًا لمُواطنيها وحِمايةً لهُم، فقد أبدعت قوّات الأمن الفِلسطينيّة في التصدّي للدبّابات والمُدرّعات الإسرائيليّة، ولم تتورّع عن تقديمِ عشراتِ الشّهداء.

جنين ولّادة.. والأرحام الفِلسطينيّة التي أنجبت “عرين الأسود” وكتائب القسّام والأقصى ونابلس وسرايا القدس.. ولّادةٌ أيضًا.. فالمُقاومة مُستمرّةٌ والنّصرُ صَبْرُ ساعة.. والأيّام بيننا.

المصدر: رأي اليوم

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com