عطوان: لماذا لم يستبعد لافروف ان يكون زعيم ميليشيا “فاغنر” عميلاً للمخابرات الأمريكية او الاوكرانية؟ وما هي الأدلة؟ واي السيناريوهات الثلاثة الأكثر ترجيحاً في مرحلة ما بعد التمرد؟ وماذا وراء سياسة كظم الغيظ التي تبناها بوتين؟ وهل انتهت الأزمة..!
أبين اليوم – مقالات وتحليلات
بقلم/ عبد الباري عطوان
انتهاء عملية التمرد العسكرية التي قادها بريغوجين قائد كتيبة “فاغنر” في أقل من 24 ساعة، ودون إراقة نقطة دم روسية واحدة، وعودة الحياة الطبيعية الى العاصمة موسكو بعد انهاء جميع إجراءات الطوارئ، كلها علامات تؤكد نسف جميع النظريات التي انتشرت في الاعلام الغربي، وتتحدث عن أزمة في المؤسسة العسكرية الروسية، عنوانها الأبرز الانقسام والصراع بين الجنرالات والحرب الأهلية، حتى كأن الرئيس فلاديمير بوتين عبد الفتاح برهان، وبريغوجين هو محمد حمدون دوغلو (حميدتي).
نشرح أكثر ونقول اننا لم نسمع او نقرأ عن ضابط او جندي واحد في الجيش الروسي إنشق استجابة لدعوة قائد ميليشيا “فاغنر”، وانضم الى قواته، بل شاهدنا قيادة الجيش، والشعب الروسي تلتف حول رئيسها بوتين، وتعلن الولاء له، الأمر الذي أصاب القيادات الغربية، وخاصة في البيت الأبيض، بحالة من الصدمة والإحباط.
بريغوجين قائد مرتزقة “فاغنر” حرض الناس في روسيا للنزول الى الشوارع للتخلص من الخونة في الجيش الروسي، وهدد بإعدام خصومه من الجنرالات الذين قصفوا قواته في باخموت، في الساحة الحمراء في قلب موسكو، ودفن جثة سيرغي شويغو وزير الدفاع الى جانب لينين، ولكن النتائج جاءت عكسية، فالانشقاق حدث في صفوف قواته، و”صديقه” الرئيس بوتين انحاز الى قادة جيشه في هذه الأزمة، ولم ينجر اليه، وزحفه وقواته الى موسكو انفض بعد بضعة كيلومترات، وجاءت وساطة لوكاشينكو رئيس بيلاروسيا عجلة انقاذ.
نظريات المؤامرة والتضليل ازدهرت في الاعلام الغربي وبعض انصار أمريكا في العالم العربي (عددهم يتناقص هذه الأيام وهذا موضوع آخر)، ويمكن حصرها في السيناريوهات الثلاثة التالية:
الأول: ان يكون الرئيس بوتين قد أعد بنفسه هذه “المسرحية” والهدف هو الإطاحة بقادة الجيش، ووزير الدفاع شويغو، ولهذا اوعز لقائد “فاغنر” بالتمرد واستخدامه كذريعة لتحقيق هذا الهدف.
الثاني: إحلال قوات احمد الشيشانية التي يتزعمها رمضان قديروف محل قوات “فاغنر” في أوكرانيا، وربما دول أخرى في افريقيا، ولوحظ ان هذه القوات الشيشانية المعروفة بقدراتها القتالية العالية، اندفعت الى موسكو لمواجهة زحف قوات “فاغنر” المزعوم للدفاع عنها.
الثالث: هذا التمرد جاء كخطوة ذكية “لشرعنة” نقل قوات “فاغنر” الى بيلاروسيا (روسيا البيضاء) للقيام بمهمة جديدة، وهي اقتحام العاصمة الأوكرانية كييف، والسيطرة عليها، تماما مثلما فعل في مدينة باخموت الاستراتيجية بعد حرب شوارع شرسة استمرت تسعة أشهر، فالحدود البيلاروسية لا تبعد الا 40 كيلومترا عن كييف.
معظم هذه السيناريوهات الثلاثة، ان لم يكن كلها، لا يوجد لها أي أرجل يمكن ان تقف عليها، فالرئيس بوتين الذي خرج قوياً من هذه الازمة القصيرة الأمد، لا يحتاج الى ذريعة او سبب لتغيير وزير دفاعه، وقادة جيشه، بعد نجاحهم الباهر في التصدي للهجوم الاوكراني المضاد وإفشاله، اما اذا انتقلنا الى السيناريو الثاني، أي توفير الغطاء لإرسال قوات “فاغنر” الى روسيا البيضاء، فأنه سيناريو اقرب الى السذاجة، فاذا كان الرئيس بوتين ارسل أسلحة نووية تكتيكية الى روسيا البيضاء، وبالاتفاق العلني مع رئيسها لوكاشينكو حليفه الأول، فهل سيعجز عن ارسال قوات هذه الميليشيا، ويحتاج الى غطاء “شرعي” في هذا الصدد، والشيء نفسه يقال أيضا عن السيناريو الثالث وهو إحلال كتائب احمد الشيشانية محل ميليشيا “فاغنر” سيئة الذكر.
نعيد ونؤكد ان الأزمة بدأت بسبب حالة تضخم غير مسبوق للذات عند بريغوجين زعيم “فاغنر” الذي كبر رأسه بعد انتصار قواته في باخموت، واعتقد انه أحق بوزارة الدفاع من شويغو، ومن الجنرال فاليري غيراسيموف قائد هيئة اركان الجيش، وربما احق من بوتين نفسه في رئاسة البلاد، فأعلن التمرد، وبطريقة تنطوي على الكثير من “الحرد” و”السذاجة” معتقداً ان اكثر من 150 مليون روسي وأربعة ملايين ضابط وجندي سيقفون خلفه، ويدعمون انشقاقه، ويحملونه على الاكتاف مما يؤكد انه قد يفهم فعلا بالطبخ والنقانق، ولكنه قطعا ليس له علاقة بالسياسة او العسكرية، خاصة عندما يتعلق الامر بدولة عظمى مثل هزيمة نابليون وهتلر، وقد تعزم قريبا الإمبراطورية الامريكية.
هل تقف المخابرات الأمريكية خلف هذا التمرد، ونجحت بالتالي في اختراق ميليشيا “فاغنر” واشترت قائدها بالمليارات مثلما تردد على وسائل التواصل الاجتماعي؟
سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي المخضرم والداهية، اعفانا من الإجابة عندما قال في تصريحات ادلى بها اليوم الاثنين وننقلها حرفياً: “الاستخبارات الروسية تحقق حالياً فيما اذا كانت أجهزة استخبارات غربية أمريكية متورطة في هذه الاحداث التي وقعت السبت الماضي”، واكد “ان احتمالية تعاون المخابرات الاوكرانية مع ميليشيا “فاغنر” قائمة”.
نختم بالقول “ان انتفاخ بريغوجين وتضخم ذاته، وطموحاته العسكرية والسياسية” طعنت حلفاءه (اذا صحت انه مخترق) وليس الدولة الروسية، بخنجر مسموم فعلا، واطاحت به، وقد تنتهي “مغامرته” بالعثور عليه مسموما، او ميتا بعدة رصاصات في رأسه، فكل الاحتمالات واردة، خاصة بعد تصريحات بوتين بأنه “قد يغفر كل شيء الا الخيانة”.
نقولها للمرة الالف، بأن الرئيس بوتين لم يتصرف كضابط مخابرات سوفييتي، وانما كقائد استراتيجي “غربي”، عندما لم يثأر بسحق تمرد قوات “فاغنر”، وقصف زعيمها بريغوجين بصاروخ قاتل، حقناً للدماء وتطويقاً للازمة في مهدها تجنباً للخسائر، ولعله استفاد من تجربة اقتحام انصار دونالد ترامب للكونغرس، فالعنف لا يقود إلا للعنف، والحكمة والتعقل، وضبط النفس، هي الوصفة السحرية في مواجهة الازمات، خاصة في زمن حرب عظمى مثل الحرب العالمية الأوكرانية الحالية، وتستهدف تفكيك روسيا ووحدتها الترابية والوطنية، وبقيادة دولة عظمى مثل أمريكا.. والله اعلم.
المصدر: رأي اليوم