عطوان: خِطابٌ تصعيديٌّ بلهجةٍ “نوويّة” للرئيس بوتين في خِطابه الأخير في سانت بطرسبورغ.. ما هي الرّسائل الثلاث التي تعمّد توجيهها حول حرب أوكرانيا؟ ولماذا وصف زيلينسكي بأنّه عارٌ على اليهود؟ وتجنّب تدمير كييف دُونَ ذِكر الأسباب..!

5٬823

أبين اليوم – مقالات وتحليلات

بقلم/ عبد الباري عطوان

يُمكن وصف الخِطاب الأخير الذي ألقاه فلاديمير بوتين في الجلسة الافتتاحيّة لمُنتدى سانت بطرسبورغ الاقتصادي الدولي بحُضور 14 ألفًا من بينهم رؤساء ووزراء وخُبراء في العديد من الدول، بأنّه كان “نوويًّا” ويعكس ثقةً بالنفس، ويُلمّح إلى حالةٍ من الانتِصار تتبلور في الحرب الأوكرانيّة.

الرئيس الروسي أشار في الخِطاب (الطّويل) إلى السّلاح النووي، أو التهديد به، بشَكلٍ مُباشر أو غير مُباشر، أكثر من ثلاث مرّات على الأقل.

الأولى: عندما قال إن بلاده تملك أسلحة نوويّة أكثر من دُول حلف الناتو (30 دولة) مُجتمعةً، بما في ذلك الولايات المتحدة، وإنه لن يرضخ للضّغوط لتقليصها (هُناك من يُقدّرها بأكثر من 6000 رأس نووي).

الثانية: تأكيده أن بإمكان روسيا استخدام الأسلحة النوويّة في حال وجود تهديد لسلامة أراضيها، أو وجودها، لكنّها لا تحتاج لذلك (ربّما حتى الآن).

الثالثة: الإعلان رسميًّا عن نشر أسلحة نوويّة تكتيكيّة في بيلاروسيا (روسيا البيضاء)، وسيتم استخدامها في مُواجهة أيّ اعتِداء على الأصدقاء في البيلاروسيا أو الأراضي الروسيّة.

وكان واضحًا أيضًا أن الخِطاب المذكور تضمّن العديد من الرّسائل التي جرى صِياغتها بعنايةٍ فائقةٍ، سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا، ومُوَجَّهَة إلى أربع جهات.

الأولى: الجبهة الداخليّة: تمثّلت في طمأنة الرأي العام الروسي، من حيث التّركيز على قوّة الاقتصاد، رُغم مُرور 16 شهرًا على الحرب، فمُعدّلات البِطالة انخفضت، ونمو الإنتاج المحلّي بلغ 2.2 بالمِئة العام الماضي، وحواليّ 3.9 بالمِئة هذا العام، وبالتّحديد في نيسان (إبريل) الماضي، أمّا مُعدّلات التضخّم التي وصلت إلى 10 بالمِئة العام الماضي (2022) فقد انخفضت إلى 2.2 بالمِئة، وهذا رقمٌ قياسيٌّ بالمُقارنة لبُلوغه حواليّ 10 بالمِئة في مُعظم الدّول الأوروبيّة، وأقل قليلًا في الولايات المتحدة، وأكّد أن العجز في الميزانيّة بلغ 42 مِليار دولار بسبب انخِفاض أسعار الطّاقة والإنفاق الحربي.

الثانية: إلى أوكرانيا والدّول الغربيّة الدّاعمة لها، عندما قال إن خسائر الجانب الأوكراني في هذه الحرب بالمُقارنة مع الخسائر الروسيّة تبلغ 1 إلى 10 لصالح الأخيرة، وإن كُل الأسلحة والذّخائر الأوكرانيّة تأتي من الخارج، وهذا لن يستمرّ إلى الأبد بينما جميع الأسلحة الروسيّة مُصنّعة داخليًّا، والمصانع الحربيّة تعمل ليل نهار، ولدى روسيا احتياطات ضخمة من الأسلحة والذّخائر من كافّة الأنواع والأحجام.

الثالثة: مُوجّهة إلى العالم بأسْرِه وتتلخّص في أن النظام الاستعماري الحالي الذي تتزعّمه الولايات المتحدة يقترب من نهايته إذا لم يكن قد انتهى فعلًا ولمصلحة نظامٍ عالميٍّ جديدٍ مُتعدّد الأقطاب، سيكون أكثر انحِيازًا للعالم الثالث وفُقرائه، ولا مكان فيه لهيمنة الدولار، وستكون منظومة دول “البريكس” ركيزته الأكبر.

الرابعة: تحديد أهداف الحرب من وجهة النظر الروسيّة وحصرها بتدمير الآلة العسكريّة الأوكرانيّة تدميرًا كاملًا، والقضاء على النازيّة، وإفشال المشروع الأمريكي الغربي بإلحاق هزيمة استراتيجيّة بروسيا في ساحة المعركة الأوكرانيّة.

بعض الفقرات في خِطاب بوتين كشفت عن تأثير حُروب مِنطقة الشّرق الأوسط، وأدبيّاتها في صياغتها، خاصّةً تأكيده على أن طائرات “إف 16” الأمريكيّة الصّنع التي وعدت أمريكا بتسليمها لأوكرانيا، لن تجد مطارات تعود إليها في حال دُخولها ميدان الحرب، سواءً داخل أوكرانيا (مُعظم المطارات جرى تدميرها)، أو في دُول الجِوار مِثل بولندا ودُول البلطيق، سيكون مصيرها الحرق مِثل دبّابات “ليوبارد” الألمانيّة و”تشالنجر-2″ البريطانيّة ولمّح إلى أن قواعد هذه الدّول ستُواجه التّدمير في حال انطلقت منها هذه الطّائرات.

الرئيس بوتين ذكَرَ الهُجوم الأوكراني المُضاد الذي حظي بتضخيمٍ مُبالغٍ به من الإعلام الغربيّ مرّةً واحدةً فقط، عندما أكّد أن هذا الهُجوم لن ينجح، ووصف المُناوشات داخل أطراف الحُدود الروسيّة بأنّه كان الهدف من ورائها التغطية على الهزائم التي لحقت بالجيش الأوكراني وفشل الهُجوم المُضاد، وذكرت بعض وسائل الإعلام الغربيّة هذه الحقيقة عندما قالت إن الجيش الأوكراني استعادَ 100 كيلومتر مُربّع من الأراضي التي ضمتها موسكو، ولكن ما لم تقله هذه الوسائل إن حجم الأراضي التي ضمّتها روسيا في جنوب شرق أوكرانيا تزيد عن 180 ألف كيلومتر مُربّع.

عبارةٌ مُهمّة لفتت نظرنا أيضًا في هذا الخِطاب وأثارت العديد من علامات الاستفهام تلك التي قال فيها “إن الجيش الروسي بإمكانه تدمير أجزاء في وسط كييف ولكنّه اختار ألا يفعل لعدّة أسبابٍ، والرئيس بوتين لم يكشفها، فهل كان يقصد الحِفاظ على العاصمة وعدم تدميرها تمهيدًا لضمّها، أو حتى تظل على حالها مُكافأةً للنظام البديل القادم المُوالي لروسيا؟

ما لم نفهمه أيضًا في الخِطاب هو عدم ردّه على الأنباء التي قالت إن “إسرائيل” ستُرسل 200 دبّابة “ميركافا” إلى أوكرانيا عبر طرفٍ ثالث، فهل يُوحي بأنّه يُطالبهم بالتبرّؤ من زيلينسكي وعارِه.

خِطابُ بوتين في سانت بطرسبورغ كانَ الأهم في نظرنا مُنذ بَدء الحرب الأوكرانيّة، ويُمكن من خِلال قراءةٍ مُتأنّيةٍ لما بين سُطوره الاستِنتاج بأنّه على يقين بأنّه لن يَخرُج خاسِرًا من هذه الحرب سِلمًا أو حَربًا، وأن تلويحه بالأسلحة النوويّة جِديًّا، وليس استعراضيًّا تهويشيًّا لأنه لم يَخُض هذه الحرب حتى يَخرُج منها مهزومًا وبلاده مُدمّرة مُفكّكة.. واللُه أعلم.

 

 

المصدر: رأي اليوم

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com