عطوان: لماذا صدَمنا كشْف النخالة للأسباب الحقيقيّة التي أدّت إلى إغتيال قادة ميدانيين لحركة “الجهاد” في معركة غزّة الأخيرة؟ وماذا يعني اكتشاف منصّة لإطلاق الصّواريخ في الضفّة الغربيّة؟ هل نحن أمام نقلة جديدة وخطيرة لكتائب المُقاومة..!
أبين اليوم – مقالات وتحليلات
بقلم/ عبد الباري عطوان
كانت صادمةً تلك التّصريحات التي أدلى بها المُجاهد زياد النخالة أمين عام حركة “الجهاد الإسلامي”، وأكّد فيها أن نجاح قوّات الاحتِلال الإسرائيلي في اغتيالِ عددٍ من القادة الميدانيين لجِهاز “سرايا القدس” الجناح العسكري للحركة لم يكن بسبب اختراقٍ أمنيّ، وإنّما نتيجة عدم العمل بالتعليمات التنظيميّة، والتهاون في إستخدام أجهزة الهواتف المحمولة.
النخالة أكّد في الحديث نفسه لموقعٍ لبنانيّ أن جميع من استُشهدوا في العُدوان الأخير على قِطاع غزّة من قادة “سرايا القدس” كان في حوزتهم أجهزة اتّصال خلويّة، كان من السّهل على مُخابرات الاحتِلال رصدها، وتحديد أماكن هؤلاء القادة وبالتالي اغتيالهم، سواءً بقصفٍ صاروخيٍّ مُباشر، أو من خِلال الطّائرات المُسيّرة.
مصدر الصّدمة بالنّسبة إلينا، أن دولة الاحتلال تملك نظام “بيغاسوس” التجسّسي، الذي يرصد جميع المُكالمات الهاتفيّة عبر الأجهزة الخلويّة، وباعته للعديد من الدّول العربيّة، وكان من الطّبيعي أن تُوظّفه لمُتابعة القادة الميدانيين لرجال المُقاومة الفِلسطينيّة، وتصفيتهم بالتالي.
المُجاهد النخالة الذي التقيته قبل عامٍ في مكانٍ سرّي في بيروت، وبعد سلسلة من الإجراءات الأمنيّة المُشدّدة، لا يستخدم جهاز الهاتف الخلوي مُطلقًا، وطلب عدم اصطِحاب هذه الهواتف قبل لقائه، في إطار هذه الإجراءات الصّادمة، ولا نعرف لماذا لم يتم إلزام الشّهداء بهذه التعليمات، وعدم التهاون في تطبيقها.
عندما زُرت أفغانستان في تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1996 للقاء أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة، في أحد كُهوف جبال تورا بورا، لاحظت أنه لا يستخدم مُطلقًا الهواتف المحمولة، ولا يسمح لحُرّاسه أو زوّاره باستِخدامها، كما أنّه يمنع وجود أيّ أجهزة إلكترونيّة في كُهوفه ومقرّاته، خشية اختراقها من قِبَل المُخابرات الأمريكيّة التي تُطارده، وكان يستخدم أحد حُرّاسه الخلص (يمني الأصل) لنقل رسائله الخطيّة إلى قِياداته الميدانيّة.
ربّما يُفيد التّذكير بأنّ المُخابرات الإسرائيليّة استخدمت جهاز هاتف محمول لاغتِيال الشّهيد المهندس يحيى عياش أحد قادة كتائب القسّام الحمساويّة عام 1995، كما أنها جنّدت مُدير مكتب الشهيد يحيى الشّقاقي قائد حركة “الجهاد”، وأحد ثلاثة من مُؤسّسيها الذي أعطاها خريطة تحرّكاته، وخُروجه من ليبيا التي كانَ يزورها عبر البحر إلى مالطة وهذه قصّةٌ أُخرى.
وأذكر أنّني لاحظت في لقاءاتي مع ثلاثة من القادة العرب أنهم يستخدمون هواتف “نوكيا” الصّغيرة القديمة والرّخيصة، وليس الهواتف الذكيّة (Smart phone) الأحدث المُتعدّدة الاستِخدامات، وعندما سألت عن السّبب، بحُكم الفضول، قالوا لأنّ هذه الهواتف المحمولة “البِدائيّة” والرّخيصة يَصعُب اختِراقها من قِبَل أجهزة التجسّس، وأكّد لي أحد الخُبراء هذه الحقيقة.
لا نُجادل مُطلقًا بأنّ الأجهزة الأمنيّة الإسرائيليّة مُتقدّمةٌ جدًّا في مجالات التجسّس الإلكتروني، ونجحت في اختراق هواتف قادة دول أوروبيّة مِثل الرئيس الفرنسي ماكرون، ولكن الحذر يظلّ واجبًا ومطلوبًا من قِبَل قادة المُقاومة، المدنيين والعسكريين منهم، وعدم تسهيل مهمّة العدوّ في رصد تحرّكاتهم والوصول إليهم.
جميع الثورات في التاريخ تعرّضت لمُحاولات اختِراق، وزرع الجواسيس والعسس في صُفوف مُقاتليها، ومن بينها الثورة الجزائريّة أعظم الثورات العربيّة والإسلاميّة، ولكن هذه الثورات انتصرت وهزمت قوّات الاحتِلال، وحرّرت أراضيها من دنسها في نهاية المطاف، والثورة الفِلسطينيّة لن تكون استِثناء.
الرّد القويّ والصّاعق من قِبَل مُقاتلي حركة “الجهاد الإسلامي” على العُدوان الإسرائيلي الأخير على قِطاع غزّة، أربك القِيادتين السياسيّة والعسكريّة الإسرائيليّة، وجرى إطلاق أكثر من 1400 صاروخ وقذيفة على مُستوطنات غِلاف قِطاع غزّة وتل أبيب، ثأرًا للشّهداء، من المُؤكّد أن الإعداد مُستَمِرٌّ لرُدودٍ أُخرى لا تقلّ أهميّةً في حالِ تِكرار العدو لعمليّات الاغتِيال، فالرّدع الفِلسطيني ما زالَ قويًّا، والعُدوان لم يقضِ على إرادة الرّد مثلما يطمح نِتنياهو ورهطه، بل عزّزه.
العُثور على منصّة لإطلاق الصواريخ في قرية نزلة قضاء طولكرم، جرى استخدامها لإطلاق صواريخ صناعة محليّة على مُستوطنةٍ مُجاورة تطوّرٌ مُتوقّع، ومُقدّمة لنقل تكنولوجيا الصّواريخ وربّما المُسيّرات من قِطاع غزّة إلى الضفّة الغربيّة، في تطوّرٍ مُرعبٍ لدولة الاحتِلال ومُستوطنيها، بحُكم التّداخل بين المُستوطنات والقُرى والمُدُن الفِلسطينيّة.
لا يُخامرنا أدنى شك بأنّ المُقاومة الفِلسطينيّة، وحركة “الجهاد الإسلامي” على وجه الخُصوص، ستُجري مُراجعاتٍ لأداء قوّاتها في معركة غزّة الأخيرة، وستتعلّم من بعض “الهفوات”، واتّخاذ الاحتِياطات اللّازمة للحيلولة دون تِكرارها في المعارك القادمة، وهي وشيكة، في ظِل الاعتِداءات والاغتِيالات، والمجازر الإسرائيليّة المُستمرّة.
ما أضعف منظّمة التحرير الفِلسطينيّة، وحركة “فتح” عمودها الفقري، ليس الاغتيالات الإسرائيليّة التي استهدفت قادتها مِثل خليل الوزير (أبو جهاد) وصلاح خلف (أبو إياد) وأخيرًا ياسر عرفات، وإنّما اتّفاقات أوسلو التي تُشكّل الخديعة الأكبر في تاريخ القضيّة الفِلسطينيّة، وحركات المُقاومة الجديدة وكتائبها تعلّمت من دُورس هذه الخديعة جيّدًا وأبرزها الاعتِماد على النّفس، وعدم الرّهان على أيّ دولةٍ عربيّة، أو ما يُسمّى بالمُجتمع الدولي، ولهذا سيكون النّصر حليفها.. والأيّام بيننا.
المصدر: رأي اليوم