هل ضم بوتين للأقاليم الأوكرانيّة الأربعة جعله أمام خِيارٍ واحد: النصر أو الموت؟ وكيفَ بات كمُفتي سلفي مُتشدّد بهُجومه الشّرس على قيم الغرب وانحِلاله وشُذوذه؟ وما هي النتائج الصّادمة التي كشفت عنها آخِر استطلاعات “الرأي العام” الأوروبي تُجاه الحرب الأوكرانيّة؟
أبين اليوم – مقالات وتحليلات
تابعنا مِثل الكثيرين غيْرنا “الخِطاب التاريخي” الذي ألقاهُ الرئيس فلاديمير بوتين يوم أمس وهاجم فيه الغرب وقيمه وأخْلاقه وانحِلاله وشُذوذه بشَراسةٍ وكأنّه أحد شُيوخ السلفيّة الإسلاميّة المُتشدّدة، وإعلانه ضم أربعة أقاليم أوكرانيّة إلى الاتحاد الروسي واعتباره سُكّانها مُواطنين مِثلهم مِثل 146 مِليون روسي ممّا يعني حتميّة الدّفاع عنهم وأرضهم بكُلّ الطّرق والوسائل بما في ذلك استخدام الأسلحة النوويّة إذا لزم الأمر.
المُحلّل الروسي الشّهير ألكسندر نازاروف لخّص تبعات خطوة الضم بقوله “لم يعد أمام الرئيس بوتين والنّخبة الحاكمة المُحيطة به إلا خِيار واحد هو “أما النصر أو الموت” لأنّ خسارة هذه المناطق الأربع، وقبلها شبه جزيرة القرم (جرى ضمّها عام 2014) تدفع نحو الخِيار النوويّ لمُواجهة ما يراه تهديدًا وجوديًّا لروسيا ويضع مصير بوتين كرئيسٍ على المِحَكْ.
لا نعتقد أن الرئيس بوتين أقدم على عمليّة الضّم الخطيرة هذه دُونَ أن يحسب حساباته بشَكلٍ جيّد ودقيق، بما في ذلك طبيعة الرّد الغربيّ المُتوقّع ضدّها، فالحُلول السياسيّة، وكذلك المُفاوضات للتوصّل إلى وقفِ الحرب، باتت شبه مُستحيلة، إلا إذا رفعت أمريكا راية الاستِسلام البيضاء، وقرّرت البحث عن صيغةٍ تُنقِذ ماء وجهها..
ولا تُوجد في الوقت الرّاهن أيّ مُؤشّرات في هذا الصّدد، بل المزيد من التّصعيد والدّعم للرئيس الأوكراني زيلينسكي وجيشه، حيث تتساقط المُساعدات الماليّة والعسكريّة عليه وجيشه “مِثل الرّز” هذه الأيّام، حيث اعتمد الكونغرس بالأمس حُزمة مُساعدات عسكريّة بحواليّ 12.3 مِليار دولار بينما سيُقدّم البنك الدولي مُساعدات نقديّة لدعم الاقتصاد الأوكراني بحواليّ 530 مِليون دولار، وبهذا يتجاوز حجم المُساعدات الأمريكيّة العسكريّة رقم الـ 65 مليار دولار مُنذ بدء الحرب في شباط (فبراير) الماضي.
الرئيس بوتين وضع صخرةً كبيرةً في طريق أيّ عودة للمُفاوضات عندما أعلن أنها لن تشمل التّراجع عن عمليّة الضّم هذه، فهذا قرارٌ نهائيّ، وأصبحت الأقاليم الأربعة روسيّةً، وباتت محميّةً بالمِظلّة النوويّة الروسيّة.
تركيز الرئيس بوتين على أوضاع الاقتصاد الغربي المُتدهور في خِطابه، يُوحي بأنّه خرج فائزًا في الحرب الاقتصاديّة حتّى الآن، فبينما يزداد الاقتصاد الروسي قوّةً، ويرتفع سِعر الروبل (51 روبل مُقابل الدولار)، تنهار الأسواق الماليّة الغربيّة وتفقد البورصات مِئات المِليارات من أثمان أسهمها، وتتهاوى عُملاتها الرئيسيّة مِثل اليورو والإسترليني، وسيأتي الدّور على الدولار حتمًا لأنّ ارتفاعه الحالي خادع، ويعود إلى رفع أسعار الفائدة لتقليص التضخّم، حسب آراء الخُبراء الاقتصاديين الغربيين.
الغرب في ظِل هذه الصّورة القاتمة لاقتِصاده لا يُمكن أن ينخرط في حربِ استنزافٍ طويلةِ الأمد ضدّ روسيا، وعلينا أن نتذكّر، ونُذَكّر، بأنّ الصين التي تُعتبر الهدف الرئيسي النهائي لهذه الحرب ضدّ روسيا تزداد قوّةً على الصُّعُد كافّة، وتخرج المُستفيد الأكبر من هذه الحرب اقتصاديًّا وسياسيًّا وعسكريًّا، فحتّى الآن لم تخسر “يوانًا واحدًا” بل ربحت مِئات المِليارات على شكل نفط وغاز روسيين بأسعارٍ مُخفّضة.
أوروبا بدأت “تتململ” من جرّاء الحرب الأوكرانيّة، والأزَمات التي لحقت بها، وخاصَّةً أزَمة الطّاقة، فقد أظهر استطلاع للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجيّة، أُجري في 11 دولة أوروبيّة قبيل الحرب الأوكرانيّة، أنّ الرأي العام الأوروبي يرى أن حُكومات بلاده يجب أن تقف على الحِياد في أيّ نزاعٍ بين الولايات المتحدة وروسيا أو الصين.
حلف الناتو يُواجه انقسامات خطيرة هذه الأيّام يجري التكتّم عليها، فتركيا العُضو “المُشاغب” فيه ما زالت ترفض انضِمام السويد وفنلندا إليه بعد نكثها لتعهّداتها بتسليم المُعارضين الأتراك، وهُناك مُعارضة قويّة بدأت تطل برأسها لعودة الحديث عن انضِمامٍ سريع لأوكرانيا للحِلف من قبل أكثر من دَولةٍ عُضو، فاندِلاع أيّ حربٍ نوويّةٍ يُمكن أن تُدمّر روسيا، ولكنّها ستُدمّر مُعظم أوروبا أيضًا.
ربّما كان الرئيس بوتين دقيقًا عندما قال في خِطابه يوم الجمعة إنه لا يُريد إحياء الاتّحاد السوفيتي، ولكنّه من المُؤكّد أنّه يتطلّع للانتِقام من الغرب الذي دمّره، وفكّكه، وأهان شُعوبه، ليس من مُنطلق الانتقام فقط، وإنّما كضربةٍ استباقيّةٍ لحِماية الاتحاد الروسي الذي يتزعّمه من مُواجهةِ المصيرِ نفسه.
نختم بالقول إن ضم الرئيس بوتين للأقاليم الأربعة هو البداية الحقيقيّة للحرب العالميّة النوويّة الثالثة، وما سبق مُجرّد عمليّات عسكريّة محدودة، أو تمهيديّة، ومن يُقدِم على هذه الخطوة، رُغم معرفته لتبعاتها رَجُلٌ لا يبحث عن مُفاوضاتٍ أو حُلولٍ سِلميّةٍ، وإنّما عن النّصر مهما كانت الكُلفة عالية.. والأيّام بيننا.
عبد الباري عطوان..
المصدر: رأي اليوم..