تحقيق: أسلحة الحرب في اليمن.. صُنعت في فرنسا..!

6٬036

أبين اليوم – استطلاع وتحقيقات

تُعد فرنسا، بعد الولايات المتحدة، أهم مزود أسلحة للتحالف السعودي-الإماراتي المنخرط في الحرب اليمنية منذ 2015. لكن من الذي يجهّز ويصلح طائرات التحالف القتالية؟ أين يتم تكوين العسكريين؟ أين تُنتج القنابل التي تضرب الأسواق والمنازل اليمنية؟

هذا تحقيق عن الشركات الفرنسية الكبيرة التي استفادت من الحرب بدعم من الدولة الفرنسية.

أسفر الحرب في اليمن عن مقتل 110 آلاف شخص خلال سبع سنوات، منهم قرابة 13 ألف مدني، وفقًا لبيانات المنظمة غير الحكومية أكليد (Acled) المتخصصة في جمع البيانات حول النزاعات المسلحة. لم تفتأ الحكومة الفرنسية منذ انطلاق التدخل العسكري للتحالف العربي بقيادة السعودية ضد الحوثيين في مارس/ آذار 2015 تنفي تورط فرنسا.

ففي يناير/كانون الثاني 2019، أكدت وزيرة القوات المسلحة آنذاك فلورنس بارلي أمام ميكروفون أهم الإذاعات الوطنية: “لم نقم مؤخرًا ببيع أي سلاح يمكن استخدامه في الحرب اليمنية”. وأوضحت الوزيرة أن المعدات التي تم تسليمها تُستخدم فقط “لضمان حماية الأراضي السعودية من الهجمات البالستية الآتية من اليمن”.

بعد بضعة أشهر من ذلك، في 15 أبريل/نيسان 2019، أثبت تحقيق أجراه موقع “ديسكلوز” الاستقصائي تحت عنوان “صُنع في فرنسا” حول تقرير صادر عن مديرية المخابرات العسكرية عكس ذلك. ولم تشارك طائرات ومروحيات ودبابات ومدافع فرنسية في هجمات التحالف فحسب، بل استُخدمت هذه الأسلحة لاستهداف مناطق مدنية.

عمل أيضاً وزير الخارجية الفرنسي السابق جان إيف لو دريان جاهداً على الحفاظ على الرواية الرسمية. وقد أصر في 13 فبراير/شباط 2019 أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الأمة -التي تفاعلت بالكاد مع الموضوع- بأن فرنسا “لا تقدّم أي شيء لسلاح الجو السعودي”.

وهي كذبة تتجاهل تسليم شحنات من أدوات الليزر لتحديد الأهداف من صنع شركة “تاليس”، والتي تم إرسالها إلى المملكة العربية السعودية على الأقل حتى 20171، فضلا عن آلاف الصواريخ المصنوعة في فرنسا والتي تم تسليمها لتحالفها العسكري.

أعطت الدولة الفرنسية -فقط خلال سنة 2019- الضوء الأخضر لـ47 عقداً لتصدير ذخيرة إلى السعودية، و طوربيدات وصواريخ وقذائف موجهة ومواد متفجرة أخرى، بقيمة إجمالية قدرها واحد مليار يورو للسعودية و 3.5 مليار يورو للإمارات العربية المتحدة. وفي 2020، سجلت هذه التراخيص ارتفاعا بنسبة 40٪ للمملكة العربية السعودية و 25٪ للإمارات.

تتوافق هذه الأرقام مع تراخيص التصدير الممنوحة من قبل اللجنة الوزارية -الشديدة الغموض- لدراسة صادرات المواد الحربية. وتسمح هذه الأرقام بتقييم مدى شهية الصناعيين الفرنسيين وزبائنهم على جبهة الحرب، حتى لو كان في نهاية المطاف عدد العقود الموقعة -والسرية- أقل من هذا العدد في كثير من الأحيان.

ترفض الحكومة الفرنسية إلى غاية الآن الكشف عن تفاصيل الأسلحة التي تم تسليمها بالفعل لكل دولة أجنبية. مع ذلك، تبرز تقاريرها العامة التي تُقدم كل عام إلى البرلمان مدى أهمية التجارة مع اثنتين من أكثر الدول تدخلاً في الشرق الأوسط، وهما المملكة العربية السعودية والإمارات، واللتان تحتلان على التوالي المرتبة الثالثة والخامسة لأكبر زبون للأسلحة الفرنسية.

وتخبرنا هذه التقارير أنه بين عامي 2015 و2021، سلّمت فرنسا معدات عسكرية وذخائر وخدمات صيانة بنحو 9 مليارات يورو إلى المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، اللتان تقودان التحالف العربي ضد الحوثيين.

بات الرأي العام أقلّ تقبّلاً للفجوة الكبيرة بين خطابات فرنسا وأفعالها فيما يتعلق باحترام حقوق الإنسان. ففي مرسيليا ولوهافر، منع عمال الميناء شحنات موجهة إلى المملكة العربية السعودية. وفي البرلمان الفرنسي، دعا نواب ومنظمات غير حكومية إلى فتح لجان تحقيق وتعليق الصادرات إلى التحالف العربي، وقد أصبح اليوم غالبية الفرنسيين يؤيدون رقابة معزّزة على تصدير الأسلحة2 .

دون إثارة ضجّة، تراقب المخابرات الفرنسية بشكل متزايد استخدام الأسلحة الفرنسية في ميادين القتال الأجنبية، وخاصة في اليمن، باستعمال استخبارات بالأقمار الصناعية. وتحت ضغط وسائل الإعلام، أخذت شحنات الأسلحة إلى المملكة العربية السعودية في الانخفاض عام 2020. ولكنها مع ذلك لم تتوقف، ولا يزال التعتيم كليًا. ويستمر تصنيع الحرب هنا، بالقرب منّا، دون أي نقاش ديمقراطي.

أراد موقع “أوريان 21” رسم خريطة مواقع الشركات الفرنسية التي تمكنت من الاستفادة من تصعيد الحرب في اليمن ومن أخطر أزمة إنسانية حالية. “من اللحظة التي ‘‘تسكن‘‘ فيها شركة ما مكانًا ما، يجب أن يُعْرف دورها وأن يتم مناقشته من قبل السكان.

ذلك هو الحال بالنسبة لبعض الصناعات الكيماوية أو الغذائية الزراعية”. هذا ما كتبه مرصد التسلح في تقريره لعام 2022 عن شركات الأسلحة في منطقة أوفيرني رون ألب، في الجنوب الشرقي لفرنسا. “لماذا لا ينطبق ذلك على صناعات الأسلحة والأمن؟”. فعلاً، لا يمكن أن يكون تصنيف “ملف سرّي” عذراً دائماً للإفلات من العقاب.

ثلاث شركات فرنسية كبرى ومتعهّدوها متورطون في نزاع أسفر عن مقتل أكثر من 13 ألف مدني خلال سبع سنوات، وهي مجموعة تاليس، التي تزود الطائرات المقاتلة وتسلم الذخيرة، وشركة تصنيع الصواريخ الفرنسية البريطانية MBDA، وشركة داسو للطيران، التي تقوم بصيانة طائرات ميراج 2000 وكسبت عقوداً قياسية مع الإمارات.

تتركز معظم أنشطتها في منطقة الوسط، آكيتين الجديدة و إيل دو فرانس. وفي الأوّل من يونيو/حزيران 2022، رفعت أربع منظمات غير حكومية دعوى ضد هذه المجموعات الفرنسية الثلاثة بتهمة “التواطؤ في جريمة حرب في اليمن”.

سيكون فتح تحقيق قضائي ضد تجار أسلحة بهذا الحجم سابقة. فحتى الآن، توجد شركة فرنسية واحدة منذ قرابة أربع سنوات في مرمى القضاة المكلفين بمكافحة الجرائم ضد الإنسانية، وهي شركة Exxelia المتوسطة الحجم، بعد أن عُثر على مكونات صاروخية من صناعتها في قصف مميت في غزة، عام 2014.

اُنظر على خريطة غوغل المواقع الصناعية الفرنسية المرتبطة بالأسلحة المستخدمة في حرب اليمن.

تقول كانيل لافيت من المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان: “قد تكون للشركات رخصة تصدير صادرة عن الدولة الفرنسية، لكن خيار التصدير من عدمه يعود إليها، وعليها قانونياً التأكد من أن صادراتها لن تساهم في انتهاكات لحقوق الإنسان إن كانت هذه معروفة وموثقة”.

طالب البرلمان الأوروبي وفريق خبراء الأمم المتحدة البارزين الدوليين بشأن اليمن مراراً بإيقاف تسليم الأسلحة للتحالف، بسبب استخدامها ضد المدنيين. اتصل موقع “أوريان 21” بمجموعة “تاليس” التي ألقت المسؤولية على الدولة الفرنسية، المساهم الرئيسي في المجموعة. وأكّد لنا قسم الاتصال بأن “تاليس تلتزم بشكل صارم بالإطار القانوني، وتعمل باستمرار على تعزيز إجراءات رقابتها الداخلية على الصادرات”.

في سنة 2020 تعهدت إدارة “تاليس”، إلى جانب قادة شركات من جميع أنحاء العالم “بالشراكة مع الأمم المتحدة من أجل احترام حقوق الإنسان”. أما “داسو” وشركة تصنيع الصواريخ الفرنسية البريطانية MBDA فقد رفضتا الإجابة على أسئلتنا.

25 ألف غارة جوية:

تدور حرب اليمن في المقام الأول جوًّا. تشير لوتيس بوسوينكل من معهد دول الخليج العربية في واشنطن أنه لم يسبق في التاريخ الحديث أن تطَلَّب نزاع هذا الكم من الصواريخ، والقنابل الموجهة، وقذائف المدفعية، والطائرات بدون طيار، وأنظمة الدفاع الجوي.

وقد أحصت المنظمة المرجعية لمشروع بيانات عن اليمن سقوط 25 ألف غارة جوية منذ 26 مارس/آذار 2015، تاريخ بدء تدخل التحالف العربي. كما تمكنت طائرات التحالف خلال الأسابيع الأولى من تدخلها من تدمير معظم الأهداف العسكرية لمطاردة الحوثيين الذين يختلطون بالسكان-حسب زعمهم- يقوم أعضاء التحالف العربي بمهاجمة المزارع والأسواق والمراكز الصحية أو مواقع التزود بالمياه. وقد قُتل ثلثا الضحايا المدنيين الذين سجلتهم منظمة “أكليد” غير الحكومية حتى عام 2019 نتيجة قصف للتحالف.

رغم إعلان السعودية وقف إطلاق النار في 30 مارس/آذار 2022، لم يوضع حدّ لا لغارات عملياتها المسماة “إعادة الأمل” ولا لهجمات الحوثيين. ووفقاً لمنظمة “أكليد”، فقد قُتل في غضون 5 أشهر ما يقارب 400 يمني، ونفذ تحالف الرياض ما يقارب 200 قصف جوي.

في الأثناء، تساعد فرنسا الإمارات على تجديد مخزونها من الصواريخ. ففي 3 ديسمبر/كانون الأول 2021، نالت شركة تصنيع الصواريخ MBDA عقدا بقيمة 2 مليار يورو لتجهيز 80 طائرة “رافال” كانت الإمارات العربية المتحدة طلبتها من “داسو”.

صحيح أن طائرات “رافال” لن تكون جاهزة قبل عدة سنوات، لكن صواريخ MBDA قابلة للاستعمال كذلك، بمجرد تسليمها، على طائرات “ميراج” التي تشارك فعليا في الحرب على اليمن. وبالنسبة للرئاسة الفرنسية، فإن هذا العقد “التاريخي” “تتويج أساسي للشراكة الاستراتيجية بين البلدين”.

مجموعة تصنيع الصواريخ MBDA هي ملك مشترك لإيرباص والشركة البريطانية BAE Systems والإيطالية “ليوناردو”، وهي المزود الأوروبي الرئيسي للتحالف. سلاح الجو الإماراتي4 مجهز بصواريخ كروز من طراز “بلاك شاهين” (Black Shaheen)، وهو أحد أنواع نظام كروز طويل المدى المستقل المسمى “سكالب” أو “ستورم شادو” (Storm Shadow)، والذي يتميز وفق إشهار بيعه بـ“دقة استهداف عالية بفضل نظام ملاحة متطور”.

تُستعمل هذه الصواريخ أيضاً من قبل الجيش السعودي، ويتم تجميعها في وسط فرنسا هي الأخرى وتُعد ورقة رئيسية للتحالف. وهي محملة بـ400 كلغ من المتفجرات، ما يجعلها قادرة على تفجير مبنى بضربة واحدة، ويمكن تشغيلها على جميع طائرات التحالف المقاتلة: التايفون، التورنادو وغيرها من طراز ميراج 2000.

صناعة الصواريخ في وسط فرنسا:

وبما أن صاروخ ستورم شادو/سكالب برنامج فرنسي بريطاني، يتم توزيع إنتاج المكونات بين المواقع الصناعية في إنكلترا وتلك الموجودة ببورج5، حيث تُشغّل MBDA 1700 عامل. يتم إنتاج النظم الإلكترونية والحاسوبية لهذه الصواريخ في محافظة شار الفرنسية.

كما يتم هناك أيضًا اختبار الذخيرة – بعد تجميعها – في المختبرات التي تحاكي ظروف الطيران المختلفة (مثلاً عن طريق تعريض الصاروخ لدرجات حرارة قصوى). وفي بورج أيضًا، تقوم الشركة المتوسطة Aérospatiale SME ASB بتصنيع البطاريات الحرارية الضرورية لدفع هذه الصواريخ على بعد أكثر من 400 كيلومتر من هدفها.

تحتوي أيضًا الترسانة السعودية المدرجة من قبل المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، على إحدى القنابل الرئيسية في كتالوغ مجموعة تصنيع الصواريخ MBDA: صاروخ بريمستون (Brimstone-“الكبريت”باللغة الإنكليزية)، والذي يمكن تحميله على الطائرات كما على الدبابات، ويتم تصنيعه في لُوستوك، بضاحية مانشستر. كما تم أيضاً في بورج تصنيع أول منضدة اختبار صواريخ بريمستون، ليتم شحنها جاهزة إلى إنكلترا.

تأوي بورج والمدينة المجاورة لاشاپیل سان ارسين (La chapelle Saint-Ursin) مصنعين لشركة “نكستر” – Nexter- ينتجان مجموعة متنوعة من ذخيرة المدفعية. وقد طلب السعوديون من الشركة، في خضم الحرب الأهلية في اليمن، تسليمهم قذائف 120 ملم لتسليح دباباتهم لوكلير-Leclerc.

في 2016، خططت شركة نكستر لبيع 53 ألف قذيفة و50 ألف مكوّن متفجر – والتي تُسمى “صواريخ مدفعية” في القاموس العسكري- إلى الإمارات العربية المتحدة، وفقًا لمذكرة من الأمانة العامة للدفاع والأمن الوطني بتاريخ 1 يونيو/حزيران 2016، كشف عنها موقع ديسكلوز.

في لافيرتي سان أوبان (La Ferté Saint Aubin)، جنوب مدينة أورليان، كان من المقرر أن تقوم يونغهانس (Junghans) – وهي شركة متوسطة تمتلك مجموعة تاليس نسبة 49٪ منها- بتزويد الحرس الوطني السعودي بـ 41500 “صاروخ” من ذخيرة مدفعية عيار 155 ملم، مزودة بمدافع سيزار من نفس القطر.

وقد بلغت القيمة الإجمالية للعقود 350 مليون يورو. وعلى الرغم من تردد بعض الدبلوماسيين في ذلك الحين، أعطت الدولة الفرنسية الضوء الأخضر لهذه الصفقة. وفي عام 2016 ذاك، كان دفتر الطلبيات ممتلئًا إلى درجة أن شركة “نكستر” لم تكن تمتلك قدرة إنتاجية كافية. وقصد إرضاء الزبون الإماراتي في أسرع وقت ممكن، تم أخذ القذائف من مخازن سلاح الفرسان الفرنسي.

توظف مجموعة تصنيع الصواريخ MBDA ونكستر ومتعهّدوهما 5000 شخص في مدينة بورج، أي 10٪ من العمالة في المنطقة الحضرية. وتشارك شركة تصنيع الصواريخ MBDA في لجنة تحكيم المسابقة المحلية للشركات الناشئة في قطاع الدفاع “Def’ Start”، وكانت حتى الراعي نسختها الثانية.

تشرح إيرين فيليكس، رئيسة المنطقة الحضرية لمدينة بورج: “بعد فترة من إعادة الهيكلة في نهاية التسعينيات، زادت عمليات التوظيف في قطاع الدفاع بشكل كبير منذ خمس سنوات، وذلك بفضل طلبيات من الجيش الفرنسي ومن دول أخرى”.

الاتهامات بالتواطؤ في جرائم الحرب الموجهة ضد الشركة الرائدة في المنطقة لا تُقلق كثيراً هذه المنتخبة من اليسار، بل تجيب: “تعرف الصناعات الدفاعية جيدا الإطار الذي يمكن أن تعمل فيه. المجموعة الإقليمية تدعم النسيج الصناعي، ولكنها لا تتدخل في الأمور الدبلوماسية التي تديرها الدولة”.

على بعد 200 كلم من بورج، في مقاطعة اللوار، تُعد شركة نيكستر، التي تمتلك الدولة الفرنسية نسبة 50% منها، وزناً ثقيلاً في الصناعة المحلية. في رُوان، حيث توظف الشركة ما يقارب 1400 أجير، يقوم مصنعها بتسليم مدافع “سيزار” التي تعد المملكة العربية السعودية أحد أكبر مشتريه، إذ استلمت بين 2018 و2021، 42 مدفعا.

تحت رئاسة فرانسوا هولاند، لم يكن للقانون الدولي وحياة اليمنيين أي وزن أمام المصالح الاقتصادية الفرنسية داخل اللجنة الوزارية لصادرات الأسلحة. وفي صيف 2016، بعد سنة ونصف من بدء العملية السعودية – الإماراتية، كنست وزارة القوات المسلحة مخاوف الدبلوماسيين في وزارة الخارجية والذين كانوا قلقين بشأن “عدم التطابق مع التزاماتنا الدولية”. كان من المستحيل إعادة النظر في عقود أُبرمت مع دول تمثل “ما يقرب من ثلث حجم صادراتنا”.

وأيّد ديوان فرانسوا هولاند، بل وأمر حتى، بـ“عدم الرجوع على القرار المبدئي لدعم شركائنا الاستراتيجيين من خلال صادراتنا”.

محركات صواريخ من جنوب فرنسا:

بعد وصول إيمانويل ماكرون إلى السلطة في 2017، تم الاحتفاظ بعقيدة هولاند مع استثناءات ضئيلة. خلال العهدة الأولى (2017-2022)، أعطت اللجنة المشتركة بين الوزارات ما لا يقل عن 77 رخصة تصدير للذخيرة6 للمملكة العربية السعودية و87 ترخيصاً لحليفتها الإماراتية.

ولم يتم إسقاط سوى عدد قليل من العقود. وقد اضطر مصنع ذخيرة لـ“تاليس” إلى إيقاف شحناته إلى المملكة العربية السعودية ابتداء من صيف 2020. ويقول موظف في فرع الدفاع لمجموعة تاليس التي تمتلك الدولة الفرنسية 26% منها: “حذّرت مصالح الدولة تاليس بأنه لن يتم تجديد رخصة التصدير السارية حتى يونيو/حزيران 2020؛

وبالتالي سارع موظفو لافيرتي بشحن الطلبيات السارية للعربية السعودية. لم يكن هذا العقد بقيمة بعض الملايين من اليوروات حاسما بالنسبة لمصنع يعتمد بنسبة 70% على طلبيات وزارة القوات المسلحة الفرنسية.”

قبل التعليمات الجديدة، كان هذا الموقع القديم لشركة TDA للتسليح، الذي أُدمج في تاليس، يوفّر ذخيرة مدفعية عيار 120 ملم للسعوديين. وقد تم تصوير هذه القذائف في ميادين القتال في اليمن من طرف مصور لوكالة AP في أبريل/نيسان 2015.

ليست منطقة الوسط هي وحدها المساهمة في المجهود الحربي للتحالف السعودي الإماراتي.

ففي مدينة تولوز بالجنوب الغربي، يقوم مصنع Safran Power Units بتجميع أجزاء محرك TR60 القوي والمصمم خصيصا لدفع صواريخ ستورم شادو/ سكالب. وتشيد الشركة الأوروبية الرائدة في المحركات التوربينية على موقعها على الإنترنت بـ“نجاعته وأدائه التشغيلي الذي تم إثباته في الميدان خلال العديد من النزاعات”. كم من مزارع ومساكن يمنية ساعدت سافران في تدميرها؟

لم تردّ الشركة على أسئلتنا. يراوغ جان بول لوبيز، رئيس جمعية أصدقاء التراث التاريخي لـ Microturbo، الشركة العائلية التي ابتكرت محرك الدفع الصاروخي والتي اشترتها سافران، قائلا: “هذا ليس من شأننا”.

ومع ذلك، فبعد سنوات عديدة من تسليم البضاعة، يحتفظ المصنِّعون بعلاقات وثيقة مع زبائنهم. وكما تقول شركة MBDA في عرض من عروض وظائفها: “عندما يشتري زبون نظام سلاح، من الضروري تكوينه على استعمال وصيانة نظامه، ويتعين أيضا على MBDA أن تتدخل لدى الزبون للقيام بأعمال صيانة التي لا يُفترض أن تقع على عاتقه، أو بكل بساطة لتصليح او استبدال معدات معطلة”.

يتم التخطيط لزيارات للمراقبة والتحديث كل سنتين على الأقل. حاليا، حسب معلوماتنا، تواصل MBDA تأمين صيانة مخزون صواريخ “بلاك شاهين”. وترسل هذه الشركة التي تقيم في كورنيش أبو ظبي بانتظام فرقا فرنسية وبريطانية إلى هناك في مهمات. كما يقوم أيضا موظفو تاليس بالتنقّل لتصليح أنظمة الرادار وصواريخ “كروتال” أرض-جو المثبتة على هياكل لفائدة السعوديين والإماراتيين، والتي يمتلك البلدان أكثر من مائتين منها. وعندما تكون التصليحات معقدة جدا، يتم إعادة الأجزاء إلى فرنسا، حيث أقامت تاليس مصلحة خدمة الزبائن لهذه الذخيرة.

“داسو”، تكوين وخدمة ما بعد البيع:

“داسو” رائد آخر في صناعة الدفاع الفرنسية، موجود بشكل مستمر في الإمارات. والسبب وجيه. فقد كانت هذه الدولة الخليجية الصغيرة في 1986 أول زبون أجنبي لطائرات “ميراج” المقاتلة، عامان بعد دخولها الخدمة في الجيش الفرنسي. تمتلك الإمارات اليوم 56 منها، بما في ذلك أحدث الطرازات “2000-9”، والتي تم الحصول عليها في نهاية سنوات 2000 والمجهزة برادارات وتقنيات متقدمة.

تحتاج هذه الطائرات المدججة بالإلكترونيات معاينة مستمرة أكثر من الصواريخ، إذ يجب مراقبتها وتحديثها باستمرار من طرف مهندسي مجموعة داسو، بما في ذلك في خضم الحرب على اليمن، حيث تُعد هذه الطائرات المقاتلة حلقة أساسية في الأسطول الإماراتي.

لا يقوم مُصنِّع الطائرات الفرنسي والشريك الدؤوب للإمارات منذ 40 عاماً بتكوين الفرق المحلية بأبو ظبي فحسب، بل يستقبل أيضا متربصين في موقعه في منطقة سافوا العليا (الجنوب الشرقي لفرنسا)، لتعليمهم كيفية إصلاح طائرات ميراج.

تضمن مصلحة ما بعد البيع دخلاً مريحاً للصناعيين. وقد جلب عقد التحديث لنحو 30 طائرة “ميراج” إماراتية، الذي تم التوقيع عليه في 2019 بموافقة الدولة، 418 مليون يورو لشركة داسو. وقد وعد رئيسها التنفيذي إيريك ترابيي بـ“تلبية الاحتياجات التشغيلية لدولة الإمارات”.

ويعني ذلك بصفة واضحة أن المهندسين الفرنسيين يقومون بتحسين أنظمة الرادار وكشف الأهداف لتمكين الشيخ محمد بن زايد، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، من مواصلة تدخلاته العسكرية ومن بينها في اليمن وليبيا.

في نفس السنة، أرسلت الإمارات قواتها الجوية لدعم الحاكم الأوتوقراطي لشرق ليبيا، خليفة حفتر. ومن بين الضحايا، قُتل 44 مهاجرا في مركز احتجازهم بواسطة “ميراج” 2000. وقد أثار الهجوم استنكارا دوليا وتم التنديد به في تقرير خبراء الأمم المتحدة لمجلس الأمن.

في 2015، العام الذي قرر فيه التحالف العربي قصف القرى اليمنية، جاء حوالي 30 جنديًا إماراتيًا للتدريب في أكبر مدرسة فرنسية في قطاع الطيران والفضاء، بالقرب من مدينة “بوردو” (الجنوب الغربي). وهناك دفعة جديدة تنتظر التخرج في 2023.

هذه المرة، تستقبل المدرسة عدة مئات من المتدرِّبين من الإمارات، وسيتواصل ذلك لعدة سنوات، ليتعلموا صيانة أسراب “رافال” القادمة والتي تم تقديم طلبيتها في نهاية عام 2021. وسيتمكن المتدربون حتى من التحقق من مدى تقدم تصنيع طائراتهم المستقبلية التي يتم تجميعها بميرينياك..

على الجانب الآخر من نهر “غارون” الذي يشق مدينو بوردو. هل يتوافق تدريب جيش متهم بارتكاب جرائم حرب مع قيم المدرسة التي تتلقى جزئيا تمويلا من الأموال العامة؟ تدافع مديرة مدرسة الطيران، آن كاترين غيتار، قائلة: “نحن لا نُكوِّن استراتيجيين عسكريين ولا طيارين، بل متخصصين في صيانة الطائرات”.

عندما يبيع داسو طائرات “رافال”، فهو يعمل أيضاً على بيع جزء من التكوين الذي “صُنع في فرنسا”. في مدرسة الطيران التي أنشأتها المنطقة الإدارية “آكتين الجديدة” وصناعيون من القطاع، وعلى رأسهم داسو وإيرباص، يسمح التكوين المقترح للزبائن الأجانب الإماراتيين والقطريين أو الهنديين بتمويل شهادات 350 طالب فرنسي في الطيران. يصعب في هذه الحالة التعالي على سخاء الزبائن الخليجيين، كما تشرح ذلك المديرة: “يصعب عليّ أن أرفض طلبات صادقت عليها الوزارة [وزارة القوات المسلحة] ورئاسة الجمهورية”.

أما السعوديون فيفضلون مناخ “اللورين”، في الشمال الشرقي للبلاد. وقد أقنعتهم الدولة الفرنسية بالمجيء للتكون على استعمال أبراج المدافع بـ“كوميرسي”، وهي قاعدة عسكرية سابقة، تم إخلاؤها بعد رحيل فوج عسكري فرنسي. كان يُفترض أن يؤدي هذا المركز -الذي بُني خصيصا للسعوديين بفضل أموال عمومية- إلى تعزيز التوظيف المحلي.

لكن بالكاد تم خلق 20 منصب شغل من أصل المائة الموعودة، وفقا لتحقيق منظمة العفو الدولية ومجلة “لا روفو ديسيني”.

الكونفدرالية العامة للشغل مع وقف مبيعات الأسلحة:

لتبرير استمرار عقودهم مع المملكة العربية السعودية والإمارات، لا يتوانى الصناعيون في التحجج بحماية مناصب الشغل في فرنسا. لكن الحجة أبعد من أن تصادق عليها النقابات.

تخوض الكونفدرالية العامة للشغل (CGT) داخل مجموعة “تاليس” منذ عدة سنوات حراكاً لوقف بيع العتاد الحربي للمملكة العربية السعودية والإمارات المستعمل في الحرب على اليمن. ففضلا عن القنابل المصنّعة بوسط فرنسا، فإن مجموعة “تاليس” هي أيضا المزود الرسمي لأدوات الاستهداف للقوات الجوية السعودية والإماراتية. تسمح هذه النظم البصرية الحديثة بتوجيه نيران الطيران المقاتلة بدقة وتجنب الأضرار الجانبية، إلا عندما يكون المدنيون جزءا من الأهداف المحددة، كما كان حال الحافلة التي تقلّ تلاميذ المدارس والتي مزقتها ضربة من التحالف في أغسطس/آب 2018.

اشترت المملكة العربية السعودية حوالي 60 أداة استهداف فرنسية، تم تسليم آخرها في 2017، لتجهيز طائراتها “تيفون” و“تورنادو” (وفقا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام). نفس الأمر ينطبق على طائرات “ميراج” التابعة للأسطول الإماراتي، والتي تواصل “تاليس” منذ 2017 ضمان صيانتها.

تم إنتاج كل هذه الأجهزة -التي قدمت الإمارات طلبية لنسختها الجديدة المسماة “تاليوس”- على بعد 40 كلم من باريس، في مدينة إيلانكور التي تعدّ 25 ألف نسمة. هناك تتربع مختبرات الدفاع السري لـ“تاليس” على ما يقارب مساحة 40 ألف متر مربّع. هذا الموقع الضخم الذي يجمع أكثر من ألف مهندس وفني رفيعي المستوى، هو أيضا مهد الطائرات بدون طيار “سبايرانجر” (Spyranger)، والتي قدم الحرس الوطني السعودي طلبية بشأنها منذ بضعة أشهر.

تُقيّم هذه العقود بعدة مئات من ملايين اليوروات. ولا يُعد ذلك مصدر فخر لغريغوري ليفاندوفسكي، منسق الكونفدرالية العامة للشغل في مجموعة “تاليس”. يقول هذا النقابي: “لا يتعين علينا تقبل هذه المبيعات بمجرد أن الدولة الفرنسية أعطت تصريحا لها. هناك خطر قانوني على”تاليس“عندما تقوم بتزويد أسلحة تُستخدم في مجزرة.

يمكن تعويض هذه العقود العسكرية من خلال الاستثمار في القطاع المدني، مثل التقنيات والمعدات الطبية”. غير أن باتريك كان، الرئيس المدير العام لشركة تاليس، لا يستسيغ هذا النوع من الاقتراحات ولا يحبّذ المخاطرة، بل يفضّل “الربحية القصيرة المدى”، وفقا للكونفدرالية العامة للعمال.

لكن خطاب الصناعيين لا يقنع العمّال، نظرا لأن الأرباح القياسية التي يجنونها لا تمسّ الأجراء. فعلاً، بلغ إجمالي أرباح شركة “داسو” للطيران في 2021 ما يقارب 700 مليون أورو، أي ضعف ما كان عليه في 2020 حسب تقريرها السنوي، وتحصّل مساهموها على 208 ملايين يورو من حصة الأرباح. غير أن المصنّع لم يضع موظفيه في الحسبان، بل اضطُرّ هؤلاء إلى القيام بإضراب لمدة 3 أشهر تقريبا كي يقرّ الصناعي بزيادة الأجور بحوالي 100 أورو.

وقد انتقلت هذه الحركة الاجتماعية غير المسبوقة أيضا إلى مصانع إنتاج الأسلحة التابعة لتاليس و MBDA. وأصبحت مدينة إيلانكور مركز الغضب، حيث دام الإضراب شهرين ونصف تقريبا، ليكون أطول إضراب في تاريخ “تاليس”.

ويشهد غريغوري ليفاندوفسكي من الكونفدرالية العامة للشغل بتاليس: “لم يفهم الأجراء إطلاقا موقف مجموعة”تاليس“التي أرادت توفير الأموال من خلال سياسة الأجور، والحال أن أرقام المجموعة ممتازة، وقد بلغت الأموال المدفوعة لرأس المال حوالي 1,3 مليار يورو”.

يَعد التحالف الذي بدأ يتبلور بين النقابات والمنظمات غير الحكومية بإحداث زعزعة داخل صناعة تحظى حاليًّا بحماية مفرطة من قبل الدولة الفرنسية، كونها هي نفسها مساهمة في العديد من الشركات الرائدة في هذا القطاع. خاصة وأنه على المستوى الداخلي، بدأ ضغط الرأي العام يقلق مدراء الموارد البشرية. ويبدو أن بعض الشركات التي تعرضت لانتقادات بسبب أسلحتها المستعملة في اليمن تجد صعوبة متنامية في توظيف المتخرجين الشباب.

المصدر موقع أوريان 21

 

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com