خارطة السلام في اليمن وفق مشاريع التقسيم..بقلم / محمد محمد السادة
ابين اليوم – بقلم / محمد محمد السادة
لا شكّ في أن 7 سنوات من العدوان أفرزت معطيات جديدة، لعلَّ أهمها هو نجاح ثورة 21 أيلول/سبتمبر، وهزيمة العدوان عسكرياً.
رافق ما يُسمى “الربيع العربي”، وهو إحدى مراحل مشروع تقسيم المنطقة، ظهور مفهوم التجزئة داخل الحدود، إذ تبنّت الولايات المتحدة وعدد من الدول الغربية توجُهاً رسمياً يُكرس استحالة قيام حكومات مركزية قوية في دول كاليمن وسوريا والعراق وليبيا، ودعت إلى تأسيس كيانات فيدرالية وإعادة فرز القوى المجتمعية وفق معادلة تجزئة تأتي في إطار السياق الداخلي لتلك الدول، فيما تدور مشاريع التقسيم في إطار السياق الخارجي.
في اليمن، مارست النخب السياسية الحاكمة دوراً لإيجاد طبقة ثقافية وسياسية ترى في اتباع النموذج الغربي طريقاً للخروج من أزمات اليمن، بعيداً عن الطبيعة الثقافية والحضارية الذاتية للمجتمع اليمني، فكان مشروع تقسيم اليمن إلى أقاليم ماضياً على قدمٍ وساق، لولا قيام ثورة 21 أيلول/سبتمبر 2014، التي وجدت فيها الولايات المتحدة ووكلاؤها في المنطقة فرصة سانحة لتسريع وتيرة التقسيم، إذ راهن مهندسو مشروع التقسيم على أن تحالف العدوان على اليمن بقيادة الجارة السعودية يوفر ضماناً لطموحاتهم غير المشروعة في تقسيم اليمن.
ولكن صنعاء أسقطت تلك الرهانات، من خلال معركة جسد فيها الشعب اليمني العزيز أنصع القيم الدينية والوطنية، وتجلت فيها الحقائق التاريخية والحضارية الضاربة جذورها في أعماق التاريخ، إذ قدم اليمنيون التضحيات الجليلة، وسطروا فلسفة صمود فريد تفوق على تحالف العدوان وآلته العسكرية الحديثة وجحافل مرتزقته، وأصبح هناك قناعة باستحالة فرض مشروع التقسيم على مناطق شمال اليمن التي تُديرها سلطة صنعاء بقيادة مُكون “أنصار الله”، الذي يمتلك مشروعاً وطنياً مناهضاً للوصاية والتقسيم، ليستمر المشروع، ولكن في إطار التهيئة لانفصال الجنوب وتقسيمه، في ظل اختراق خارجي كبير لما تبقى مما يُسمى “الحكومة الشرعية” وفصائل الجنوب .
المجلس الانتقالي الجنوبي نموذج يتماهى مع مشروع التقسيم
اليوم، حاضر الجنوب يستدعي ماضيه، فما يشهدهُ من انقسامات مناطقية وسياسية ليس حالة طارئة، فقد اتسم تاريخهُ المُعاصر بالصراعات والانقسامات والثارات المناطقية الجنوبية-الجنوبية، وتنازع السلطة بين مراكز القوة، إضافة إلى افتقاره إلى القيادات الكاريزماتية، ولكن المختلف اليوم هو أن حالة الانقسام والتوجهات الانفصالية مدعومة من الخارج سياسياً وعسكرياً، فقد باتت الفصائل الجنوبية تملك سلاحاً ثقيلاً ومتوسطاً استلمته من تحالف العدوان، منها قوات المجلس الانتقالي، وقوات النخبة الحضرمية، وغيرها من الفصائل التي من غير الوارد تسليمها السلاح لأي سلطة أو بموجب اتفاق .
مخطئ من يعتقد أنَّ المجلس الانتقالي يُمثل غالبية أصوات الجنوب، فهو لا يحظى إلا بقبول جزئيّ، لكونه مجلساً مناطقياً مُختزلاً في أبناء لحج والضالع بدرجة رئيسية. ولدى المجلس خلافات أيديولوجية وسياسية مع محافظات مثل حضرموت وشبوة والمهرة. كما يوجد منافسون لرئيس المجلس الانتقالي.
إضافةً إلى ذلك، إنّ العلاقة القائمة بين المجلس الانتقالي والرئيس المنتهية ولايته هادي وحكومته هي علاقة صراع سياسي وعسكري، فضلاً عن كونها علاقة ثأر، فقد كان هادي وزيراً للدفاع، وأحد القيادات العسكرية التي شاركت في حرب 1994 لمنع انفصال الجنوب وهزيمة القوات المنتمية في أغلبها إلى محافظتي لحج والضالع اللتين ألحقت قياداتها الهزيمة بهادي ومحافظته “أبين” في أحداث 1986 .
يرى المجلس الانتقالي في هادي وحكومته التي يُسيرها حزب الإصلاح مجرد امتداد لسلطة حرب 1994، كما أن المجلس المُتبنى إماراتياً يرفض قرارات هادي، وسبق أن فرض سيطرته على عدن وطرد قوات هادي، وهو أمر لا يعكس القوة العسكرية للانتقالي بقدر ما يعكس الفراغ العسكري في الجنوب، فقيادات المجلس الانتقالي ضعيفة، ولا تملك الخبرات الكافية. وقد أثبتت التجربة أن قرار المجلس في أبو ظبي، وليس في عدن.
ووصل مستوى اختراق قيادات المجلس إلى درجة مباركة تطبيع بعض الأنظمة العربية مع العدو الإسرائيلي، بل واستعدادها للتطبيع وتسليم الموانئ والجُزر مقابل الحصول على الانفصال، كما أنَّ المجلس لا يملك رؤية واضحة لمستقبل دولة الجنوب التي يُطالب بها، وليس بمقدوره إدارة دولة ومؤسساتها بمنهجية. ومع ذلك، فهو يعتبر نفسه الوريث للجنوب والبديل لحكومة هادي التي فقدت عوامل الاستمرار.
خيارات صنعاء ما بعد تأمين الشمال
لا شكّ في أن 7 سنوات من العدوان أفرزت معطيات جديدة، لعلَّ أهمها هو نجاح ثورة 21 أيلول/سبتمبر، وهزيمة العدوان عسكرياً، إلا أنّ استمرار التدخلات الخارجية، وارتهان كل الأطراف التي باركت العدوان للوصاية، وتسليمها بمشروع تقسيم اليمن، يجعل مهمة صنعاء في إعادة اليمن إلى إطاره السياسي الموحد قبل اندلاع العدوان أمراً صعب المنال على الأقل في الوقت الحالي، في ما يبدو أنَّ إعادة نظام الحُكم وأطرافه التي ارتهنت للخارج باتت أمراً مستحيلاً.
أطراف العدوان على اليمن في واشنطن ولندن و”إسرائيل” والرياض وأبو ظبي تُدرك أنَّ المسارعة إلى فرض الانفصال سيعني وقف العدوان وقيام دولة قوية مستقلة في الشمال بقيادة مكوّن “أنصار الله”، وهو ما يخشاه التحالف، ولن يمر من دون قبول صنعاء.
لذا، يتمسَّك التحالف بالخيار السياسي بعد فشله العسكري، من خلال العودة إلى المفاوضات بقيادة الأمم المتحدة، مع التوجه نحو توسيع دائرة الأطراف المشاركة فيها، بما يضمن إعادة مصالح تلك الأطراف التي فقدت حضورها جراء الخيانة، وبما يهدف إلى مصادرة الانتصارات والتضحيات لسلطة صنعاء والمكونات الوطنية، وفي مقدمتها مكون “أنصار الله”.
إنّ صنعاء، وبعد تأمينها كل مناطق الشمال، تقف أمام خيارين؛ الأول هو فرض القوة وتعقيد المشهد، من خلال استكمال تحرير مناطق الجنوب، وطرد القوات الأجنبية، ونقل ثقل المعركة إلى العمق السعودي، وهذا خيار قد لا يُنهي العدوان والحصار، بل قد يُفاقم الوضع، ويقود إلى ما يُسمى فرض عقوبات ضد صنعاء، بل ويُشرعن حماقات عسكرية أميركية بمظلة دولية، إضافة إلى كون هذا الخيار ذا كلفة عالية بشرياً وعسكرياً واقتصادياً على صنعاء.
أما الخيار الثاني، فهو يُغلب المنظور السياسي للحلّ ما دام مُتاحاً، لكونه أقل كلفة وأكثر فاعلية، فصنعاء تؤمن بأن التفاهمات والاتفاقيات السياسية هي الطريق الذي يحفظ ويُعزز ما حققته من مكاسب بدرجة أكثر فاعلية من الأدوات العسكرية، وبشكل أكثر قبولاً داخلياً وأمام المجتمع الدولي، الأمر الَّذي يُفضي إلى إنهاء العدوان والحصار، وإنهاء ما يُسمى شرعية الرئيس هادي وحكومته، كما يخلق اعترافاً دولياً رسمياً بصنعاء وشرعيتها، كطرف رئيسي في المشهد ومعادلة السلام في اليمن والمنطقة.
لذا، في حال قرّرت صنعاء اللجوء إلى الخيار السياسي، يجب أن يكون في إطار توجه يرسم ملامح مستقبل الدولة اليمنية وفق أولويات صنعاء السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية، ولا يُحمّلها أعباء التشظي والانقسام القائم في الجنوب، لترتكز أي مفاوضات قادمة على تسوية لتثبيت الأمر الواقع وتجاوز الأطراف الداخلية المهزومة، وتمنع مساعي واشنطن وتحالفها جرّ اليمن إلى فخ المرحلة الانتقالية التي يستحيل أن تُفضي إلى اصطفاف وطني لتنفيذ ما تم الاتفاق عليه، بل ستكون مرحلة لمصادرة نجاحات صنعاء ومكاسبها، ولا سيما أمنياً واقتصادياً، إضافة إلى شرعنة إعادة تموضع تلك الأطراف التي خسرت حضورها السياسي والعسكري جراء قبولها بأن تكون جزءاً من تحالف العدوان على اليمن.
ختاماً، لا بدَّ من التأكيد أنَّ كلّ حلول السلام التي طرحها المجتمع الدولي والأمم المتحدة، إضافةً إلى الأطراف الداخلية المحسوبة على العدوان، ولا سيما في الجنوب، هي حلول تتضمّن ما يُسمى حق الجنوب في تقرير المصير وفك الارتباط عن الشمال.
لذا، إنَّ أيّ تعاطٍ من صنعاء مع مثل هذه الحلول والقبول بـ”فك ارتباط” مؤقت للجنوب من دون الحاجة إلى إجراء استفتاء مقابل اتفاق شامل وضمانات برعاية دولية تشمل قضايا مثل “المراجعة الدورية للطرفين، وإعادة الوحدة كل 10 سنوات على سبيل المثال، وعدم السماح بأي نوع من أنواع التقسيم أو الانفصال في إطار الجنوب، وعدم السماح بأي نوع من الوجود العسكري الأجنبي، أو تأجير أي جزء من الأراضي أو الجزر اليمنية، إضافة إلى عدم تحول الجنوب إلى أداة لزعزعة الأمن والاستقرار في الشمال” وغيرها من القضايا.
لا شكّ في أنَّ صنعاء أمام خيارات صعبة تتحدّى مبادئ ثورتها وأهدافها، وتستوجب عدم التعاطي بردود الفعل لما يبادر ويخطط له العدو، وتستدعي أن تمتلك زمام المبادرة والتحرك في إطار رؤية واضحة وشاملة تتضمن قراءة ما يُحاك ضدها.