قراءة “هادئة” للانتِصار “الطّالباني” والهزيمة الأمريكيّة والتّطوّرات الأفغانيّة الأخيرة.. هل ستَقِف طالبان في الخندق الأمريكي لحِصار إيران وزعزعة إستقرار الصين وروسيا؟ وما مدى مشروعيّة وصُدقيّة هذه المخاوف..!
بقلم/ عبد الباري عطوان
إذا كانت صُورة الطّفلة الفيتناميّة العارية الهاربة هلعًا ورُعبًا من قنابل النابالم الأمريكيّة الحارقة التي كانت تُلقيها القاذفات الأمريكيّة على القُرى والبَلدات قبل خمسين عامًا تراجع تأثيرها بسبب التّقادم، واختِفاء أجيال ومجيء أُخرى، ولم تَعُد عُنوانًا قويًّا للإجرام الأمريكي، فإنّ صُورة المِئات من العُمَلاء الأفغان وهُم يلهثَون خلف طائرة شحن أمريكيّة عسكريّة ويتعلّقون بأجنحتها وعجَلاتها، ويُصبِح مصير بعضهم الموت ستَظل عُنوانًا بارزًا ولعُقود كدَليلٍ على الخُذلان الأمريكي، والهزيمة الكُبرى، وانتِهاء دور أمريكا كشُرطيٍّ للعالم، وتآكُل سُمعتها وهيبتها، وبداية تحلّلها كقُوّةٍ عُظمى.
التّجربة الأفغانيّة ستحتل مكانةً بارزةً في كُتب التّاريخ، ومناهج العلوم السياسيّة التي سَتُدرَّس في الجامعات والمعاهد الأكاديميّة كعُنوانٍ للفشَل والغطرسة، وسُوء التّقدير، واحتِقار الخُصوم وثقافتهم، وإرثهم العقائدي والحضاري والتّاريخي، ومُحاولة فرض ثقافة هجينة أُخرى بقُوّة الاحتِلال، وأدوات غسل العُقول الدّعائيّة المُضلّلة لتسويق قيم وأُسلوب حياة يُجَسِّد النّقيض الفِكري والدّيني، وأُسلوب حياة وسُلوك مُختلف كُلِّيًّا لا يُمكِن أن ينمو في بيئةٍ طاردة.
انهِيار حُكومة أفغانستان المَفروضة أمريكيًّا، وذَوبان جيشها الذي يزيد تِعداده عن 300 ألف جندي دون إطلاق رصاصة واحدة، وهرب رئيسها بِما تيَسَّر من الدّولارات إلى الإمارات، المأوى الجديد الحاضِن للسّياسيين الهاربين من بُلدانهم في الشّرق الأوسط والعالم، كلّها عناوين تُلَخِّص فشَل “نموذج” الحُروب والتّدخّلات العسكريّة الأمريكيّة في العالم.
أمريكا أنفقت ترليونيّ دولار في أفغانستان على مَدى عشرين عامًا، وخَسِرَت 2500 جُندي، ومع ذلك اختَفى أو بدأ في الاختِفاء كُل أثر لإرثها الاستِعماري، وعادت أفغانستان إلى المُربّع الأوّل، إلى إمارة طالبان الإسلاميّة الأُولى، ولكن بطبعةٍ ثانية جَديدة مُختلفة، ممهورةً بوِسام جديد عُنوانه هزيمة الإمبراطوريّة العُظمى الثّالثة المُحتلّة والغازية للأراضي الأفغانيّة في التّاريخ الحديث.
الغزو الأمريكي ربّما نجح في تفكيك تنظيم “القاعدة” واجتِثاثه واغتِيال زعيمه، ولكنّه نجح في توحيد 40 مِليون أفغاني تقريبًا على كراهيّة أمريكا، والغرب عُمومًا، وأعاد تتويج حركة طالبان التي باتت الأكثر قُوّةً وخبرةً، وهيبةً مُجَدَّدًا زعيمةً لأفغانستان..
فالتّرليونات التي أنفقتها الإدارات الأمريكيّة ذهبت إلى تُجّار السّلاح الأمريكيين، والشّركات الأمنيّة، وجُيوب سماسرة الفساد والأفغانيين منهم تحديدًا، أو أسيادهم الأمريكيين، وليس إلى بناء الجامعات، أو المدارس، أو المُستشفيات، أو طُرق، أو مصانع.
الغباء الأمريكي يُجَسَّد في أبشعِ صُوره باختِصار إنجازات الاحتِلال في “تحرير” المرأة الأفغانيّة وتبرّجها، ونزع الشّادور وحلق اللّحى، وليس في استِثمار تحقق نهضة اقتصاديّة تُخرِج الشّعب الأفغاني من جُوعه وفقره، وتُوفّر له فُرص العمل والحياة الكريمة وبِما يُعَزِّز بقاءه في وطنه، وتصليب جُذوره في تُربته، ورفض الهجرة تمامًا مثلما فعلت أمريكا في اليابان أو كوريا الشماليّة، والتّفسير الوحيد لذلك أنّ الشّعب الأفغاني ذنبه أنّه شَعبٌ مُسلم، مثله مِثل نُظرائه العِراقي، والسّوري، واللّيبي، واليَمني، واللّبناني، ولا ننسى الفِلسطيني بطبيعة الحال.
لن نتحدّث عن مُستقبل أفغانستان، وتطوّرات الأوضاع فيها في الأشهر والسّنوات القادمة، ليس لأنّنا لا نُؤمن بالتّنجيم وقراءة الطّالع، وإنّما لأنّ هُناك ضبابًا كثيفًا في الأجواء ما زال يَحجِب الكثير من الحقائق، ولهذا لن نتَسرّع مِثل البعض الذي ينطلق في أحكامه من مُنطَلقات طائفيّة، أو عِرقيّة، أو ارتباطات خارجيّة..
ولكن هذا لا يعني عدم الاعتِراف بشرعيّة مخاوفه من الدّور الطّالباني القادم في المِنطقة والمُتَّفَق عليه مع أمريكا حسب مزاعم رائجة هذه الأيّام. وهذه المخاوف تَنحَصِر حتّى الآن، في النّقاط التّالية:
أوّلًا: أن تتحوّل “طالبان السنيّة” المُنتَصرة إلى أداة أمريكيّة لتَشديد الحِصار على إيران، وربّما إلى قاعدة انطِلاق لعمليّات تخريب في العُمُق الإيراني، وإشعال فتيل الفتنة الطائفيّة باستِهداف أقليّة الهزارة الشيعيّة في هيرات ومزار شريف في الشّمال الأفغاني المُحاذي لإيران.
ثانيًا: توظيف أمريكا للحركة للانخِراط في حرب “جهاديّة” ضدّ الصين تحت عُنوان نُصرة الأقليّة الإسلاميّة المُضّطهدة، أيّ الإيغور، في تركستان الشرقيّة، وبِما يُحَوِّل المنطقة الحُدوديّة الأفغانيّة الصينيّة الوَعِرَة إلى نُقطة انطِلاقٍ لحركة تحرير شرق تركستان الأغوريّة “الجِهاديّة” ضدّ الصين، على غِرار تجنيد المُجاهدين المُسلمين لهزيمة السّوفييت قبل خمسين عامًا بدَعمٍ ماليّ وسياسيّ سعوديّ خليجيّ.
ثالثًا: زعزعة الاستِقرار في الجُمهوريات السوفييتيّة الإسلاميّة في الشّمال، التي ما زالت حائِط الصَّد الروسي الأقوى ضدّ الإسلام الجِهادي والجماعات الإسلاميّة المُتطرّفة للأقليّات الإسلاميّة الروسيّة، ونحن نتحدّث هُنا عن طاجيكستان، أوزبكستان، وتركمنستان، قرغيرزستان وغيرها المُحاذية لأفغانستان، وهذا ما يُفَسِّر قلق الرئيس بوتين، وإجراء جيشه مُناورات عسكريّة مع الجيش الطاجيكي قبل بضعة أسابيع تَحَسُّبًا لأيّ مُفاجآت أفغانيّة غير سارّة لامبراطوريّته.
رابعًا: زيادة إنتاج المخدّرات مثل الكوكايين والهرويين وتهريبها إلى دول الخليج وأوروبا باعتِبارها مصدر دخل مُهِم لتمويل الدّولة الأفغانيّة الجديدة.
مِن السّابق لأوانه التّكهّن بسياسة طالبان حول كيفيّة التّعاطي مع هذه المخاوف، ولكن إذا حكَمنا على الأُمور من ظواهرها، على اعتِبار أنّ الله وحده أعلم بالبواطن، يُمكِن القول أنّ حركة طالبان في طبعتها الجديدة تَعِي جيّدًا هذه المخاوف، وتَبْذُل جُهودًا لتَبديدها، أو مُعظمها، مع الأخذ في الاعتِبار أنّ إيران وروسيا كانت الدّاعم الرّئيسي لحركة طالبان ومُقاومتها للاحتِلال الأمريكي..
وهذا الدّعم يرتكز على إمداداتٍ بالسّلاح والذّخائر والمعلومات الاستخباريّة، ولا نَكشِف سِرًّا عندما نقول إنّ اللواء إسماعيل قاني رئيس الحرس الثوري الحالي كان مُقيمًا في أفغانستان سِرًّا وتمسّك بملف الدّعم الإيراني لحركة طالبان قبل أن يُصبِح نائبًا ومن ثمّ رئيسًا للحرس الثوري خلفًا للرّاحل قاسم سليماني، بالإضافة إلى ذلك إرسال طالبان وفودًا إلى موسكو وطِهران وبكّين لطمأنة حُكوماتها، والتّأكيد على أنّها لن تُحَوِّل البِلاد إلى قاعدةٍ لزعزعة استِقرارها تحت العلم الأمريكي، أمّا فيما يتَعلّق بالمخدّرات، فإنّ حُكومة طالبان الأُولى خفّضت إنتاجها بأكثر من 80 بالمِئة باعتراف الأُمم المتحدة.
الخُلاصة، وباختِصارٍ شديد، أمريكا لم تَعُد قادرةً على تغيير الأنظمة وهزيمة خُصومها عسكريًّا، وكُلّ تجاربها في هذا المَيدان فشلت وجاء البديل فوضى ودول فاشلة، وخسرت في الوقت نفسه ثقة حُلفائها، أو مُعظمهم، وفي منطقة الشّرق الأوسط على وجه الخُصوص..
وثَبُتَ بالدّليل القاطع هشاشة مُعظم أجهزة مُخابراتها، وضحالة دِراسات مُعظم مراكز أبحاثها، والعامِلين فيها، مثلما خَسِرَت أيضًا هيبتها وسُمعتها وإرثها، كقُوّةٍ عُظمى لمصلحة قِوى وتحالفات صاعدة بزعامة الصين وروسيا، إقليميّة ودوليّة.
لا نُجادِل مُطلقًا بأنّ الأهم الذي ربّما يتَرتّب على الانتِصار الطّالباني على أمريكا، هو احتِمال إعادة إحياء الإسلام السّياسي الطّائفي السنّي بعد النّكسات والهزائم التي تعرّض لها في السّنوات العشرين الماضية، والمَأمول ألا يتمّ السّماح لأمريكا باستِغلال هذا التّحوّل لمصلحتها مثلما فعلت في الماضي، وتوظيفه ضدّ خُصومها، وخاصّةً التّحالف الروسي الصيني الصّاعد، الأمر الذي يتَطلّب وَعيًا مَدروسًا من قِبَل هذا التّحالف، ومن حركة طالبان نفسها تطبيقًا للحديث ” لا يُلدَغ المُؤمن من جُحرٍ مرّتين “.. واللُه أعلم.