“إغراء عدن“.. لماذا تتصارع دول كبيرة على مدينة يمنية فقيرة..“تقرير“..!
أبين اليوم – تقارير
تحولت المهمة المعلنة للتحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات من تحالفٍ لدعم شرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي أمام إنقلاب جماعة أنصار الله “الحوثيين” إلى صراع مصالح بين قطبي هذا التحالف، وفي إطار ذلك الصراع دخلت الحكومة المعترف بها دولياً، والمجلس الإنتقالي الجنوبي “انفصالي” على الخط.
وقد أَلحق المجلس الإنتقالي بالقوات الحكومية هزيمة أخرجتها من عدن وأجزاء من محافظات لَحج والضالِع وأبْيَن في أغسطس/ آب 2019، ثم أوقع بها هزيمة أخرى أخرجتها من أرخبيل سُقَطْرى في يونيو/ حزيران 2020، وكانت أبوظبي وراء ذلك ولا تزال هي المتحكم في نشاط المجلس الإنتقالي الجنوبي، فيما برزت السعودية، مؤخراً، لتلعب دوراً قوياً ومنافساً يحقق لها توازناً إستراتيجياً مع الإمارات.
تناقش هذه الورقة، من خلال منهجية وصفية تحليلية، استراتيجيات الأطراف الإقليمية المتصارعة في عدن، سيَّما الإمارات والسعودية، وضِمن ذلك استراتيجيات طرفي الصراع الداخلَّيين فيها.. وهما:
الحكومة المعترف بها دولياً، والمجلس الانتقالي الجنوبي. حيث تشرع الورقة، بمدخلٍ جيو استراتيجي وجيو سياسي، يُسلَّط فيه الضوء على خصائص وتأثير عدن في هذا الجانب، ثم تستعرض مكانة عدن في استراتيجيات الإمارات والسعودية..
مع تقويم وضعها الراهن، سياسياً وعسكرياً وأمنياً، بوصفها غاية أطراف الصراع، مع استشراف مستقبلها في سياق تفاعلات هذا الصراع.
تتمتع عدن بخصائص عديدة في الجغرافيا الثابتة أكسبتها طابعاً إستراتيجياً، ما جعلها مطمعاً في الماضي والحاضر لقوى إقليمية تعمل على استغلالها لتحقيق أهداف جيوسياسية، ومن خلفها قوى دولية محرِّكة تمثل امتداداً حقيقياً لعهود استعمارية سابقة.
الخصائص الإستراتيجية والجيوسياسية..!
تقع محافظة عدن في الطرف الجنوبي الغربي للجمهورية اليمنية، ويحدها شمالاً وغرباً محافظة لحج، وشرقاً محافظة أبين، وجنوباً خليج عدن، ويضم تقسيمها الإداري ثماني مديريات، هي:
المُعلَّا، والتُّواهي، وصِيرة، وخور مَكْسر، والشيخ عثمان، والمنصورة، ودار سَعد، والبُرَيقة. وتبعد عن العاصمة صنعاء نحو 363 كلم، وعن محافظة أرخبيل سقطرى نحو 553 ميلا بحرياً ، أما بُعدها عن مضيق باب المندب، جنوبي البحر الأحمر، فيبلغ نحو 197 كلم (110 أميال بحرية) .
وتُعدُّ عدن ثاني مدينة بعد العاصمة صنعاء؛ لكونها الميناء الرئيس للبلاد، ولأنها كانت لعقدين من الزمان (1968-1990) عاصمة سياسية لما عُرف بجمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية (اليمن الجنوبي)، ثم قضت اتفاقية الوحدة بين جنوبي البلاد وشماله (عاصمته صنعاء)، بأن تكون عدن العاصمة الاقتصادية والتجارية،
..
وذلك ما زادها تطوراً وتوسعاً في الجغرافيا والسكان؛ حيث بلغ عدد سكانها، وفقًا لإحصاءات متداولة عام 2012، نحو 751.800 نسمة، في كان العدد، وفقًا لإحصاءات عام 2004، نحو (589,419) نسمة.
الموقع الجغرافي والمصالح والمعالم الإستراتيجية في عدن..!
تتمركز في عدن العديد من المصالح الاستراتيجية للبلاد، مثل: مطار عدن الدولي، والمنطقة الحرة “ميناء الحاويات”، وشركة مصافي عدن، التي يجري من خلالها تصدير النفط المعالج إلى الأسواق المحلية والإقليمية، بطاقة إنتاجية سنوية قدرها حوالي 8 ملايين طن..
ويضطلع المرفأ النفطي فيها باستقبال الناقلات، لتحميل وتفريغ شحنات النفط ومشتقاته، عبر ستة أرصفة، ومجموعة من أذرع التحميل الهيدروليكية. أما ميناء عدن، فيعد المنفذ البحري الأكثر أهمية، وتغطي أبعاد مساحته 8 أميال بحرية طولًا، من الشرق إلى الغرب، ونحو 5 أميال بحرية عرضًا، من الشمال إلى الجنوب.
وبالإضافة لذلك فإنها تعتبر مركزاً للدعم الاستراتيجي، العسكري والأمني، بنوعيه الطبيعي والصناعي، فضلاً عن وجود المحطة البخارية لتوليد الطاقة الكهربائية “محطة الحسوة”.
التأثير الجيوسياسي..!
أكسبت الأهمية الجيواستراتيجية لعدن تأثيراً جيوسياسياً متعاقباً ومتنامياً طوال تاريخها السياسي والعسكري، وأنعكس ذلك عليها وعلى اليمن عموماً، إيجاباً، وأحياناً سلباً، علاوة على تأثير ذلك في المستويين الإقليمي والدولي، ومن ذلك احتلالها من قبل بريطانيا خلال الفترة (1839-1967).. وطورت الميناء دعمًا لاستراتيجيتها الاقتصادية والسياسية العسكرية، جنوبي الجزيرة العربية، والخليج العربي، وشرق إفريقيا، والبحر الأحمر؛ لتصبح عدن ثالث أكبر قواعد بريطانيا العسكرية في العالم.
وازدادت أهمية عدن في استراتيجيات بريطانيا مع افتتاح قناة السويس عام 1869، ومع ظهور نظرية “قلب الأرض” أو “قلب العالم” Heartland Theory، للعالم البريطاني هالفورد ماكيندرHalford Mackinder ، عام 1904، وتعديلها الأول عام 1919، الذي وضع خليج عدن في حدود ما أسماه “القلب الجنوبي”، فيما كانت عدن وسواحلها ضمن المنطقة العربية الممتدة من الفرات شرقًا إلى النيل غرباً، وإلى خليج عدن جنوباً، التي تربط بين هذا القلب الجنوبي وقلب الأرض.
وبعد خروج الإحتلال البريطاني من عدن جاء الاتحاد السوفييتي “روسيا”، بوصفه صديقاً لليمن الجنوبي، واستغل ميناء عدن في خدمة العمليات اللوجستية لأسطوله العسكري، خلال الفترة (1969-1989).
كذلك، أعطى التعرج الكبير لساحل عدن، واختراق مياه البحر عمق اليابسة التي تربض عليها عدن، شكلًا استراتيجي القيمة والتأثير؛ حيث شكَّلها على هيئة شبه جزيرتين، ومنحها خصوصية ملاحية ومناخية، تلعب دوراً إيجابياً في نشاط الميناء، ورفاهية السكان.
وإلى جانب ذلك، العمق الكبير للميناء، وإحاطة الجبال المرتفعة به من عدة جوانب؛ الأمر الذي جعله محمياً حماية طبيعية من الأمواج والرياح الموسمية، ومكَّنه من العمل طوال العام، وهذا ما جعله أشهر الموانئ اليمنية، وواحدًا من أشهر الموانئ العربية.
والمتأمل في سطح عدن، يلحظ انحداره جنوبًا نحو البحر، من ارتفاع يزيد عن 500م، ويبدأ من قمة جبل شَمسان، وفي نواحٍ أخرى منها هنالك مرتفعات جبلية عديدة، تتوزع في محاذاة الساحل، غرباً، وإلى الداخل قليلًا، مثل: جبل إحسان، وجبل المزلقم (374م) في عدن الصغرى (البُرَيقة).
وكلها تمثل قيمة مؤثرة ملاحياً، وسياحياً، وعسكرياً، استُغل الجانب العسكري منها في مراحل مختلفة من تاريخ الصراع على عدن، بما فيها الحرب الراهنة التي اندلعت مع اجتياح جماعة الحوثيين صنعاء عام 2014، وتدخل التحالف العربي عام 2015.
لقد أتاح وقوع عدن على قطاع جغرافي متميز في الضفة الشمالية لخليج عدن، وقربها من مضيق باب المندب، لكل من يسيطر عليها، التحكم في معادلات التوازن الجيواستراتيجي والجيوسياسي، بين القوى الدولية والإقليمية المتنافسة غرب المحيط الهندي، عسكرياً، واقتصادياً، و تجارياً، وسياسياً، ولا سيما في ظل اشتداد التنافس الدولي والإقليمي في المنطقة الممتدة بين باب المندب حتى الخليج العربي..
الذي يمتل امتدادًا لتنافس تاريخي ساد القرون الأربعة الماضية، للسيطرة على تجارة الشرق ومصادرها. ولا يفوت، في هذا المقام، الإشارة إلى ما يمكن أن يضطلع به ميناء عدن، من دور في ما يُعرف بـ “مبادرة الحزام والطريق” الصينية (حزام واحد طريق واحد)، فيما لو تهيأت له الظروف اللازمة بعد توقف الحرب الراهنة، ضمن أدوار منافسين إقليميين قطعوا أشواطاً طويلة في مجال صناعة النقل البحري، مثل موانئ: جبل علي “الإمارات” ، والدُّقم وصلالة “عمان”، وجوادر “باكستان”، وجيبوتي.
لفتت تحولات الحرب اليمنية أنظار الإمارات، ثم السعودية مؤخراً، نحو المناطق الجنوبية في اليمن، وبالأخص نحو مدينة عدن، التي باتت الآن محور تنافس وصراع بين الإمارات والسعودية، ضمن صراع داخلي، تمثله الحكومة المعترف بها دوليًا، والمجلس الانتقالي الجنوبي، ويمكن إبراز ذلك في ما يلي:
عدن في الإستراتيجية الإماراتية:
لقد كان الهدف الرئيس للإمارات من تدخلها العسكري، بجانب السعودية، في اليمن، السيطرة على عدن وباب المندب، ولم تكن هنالك أولوية للدوافع الأيديولوجية جراء ارتباط الحوثيين بإيران، كحال الموقف السعودي الذي قدَّم ذلك على أي دوافع أخرى.
فأهمية عدن وباب المندب، بالنسبة إلى الأمن القومي الإماراتي، اقتصادية وعسكرية؛ بالنظر إلى النشاط العالمي لشركة موانئ دبي العالمية، والشواغل الأمنية في خليج عدن وباب المندب، التي تهدد هذا النشاط.
وقد سبق أن نجحت الإمارات في النفوذ إلى ميناء عدن، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2008، عبر اتفاقية مثيرة للجدل، كان عنوانها البارز “تطوير الميناء”، إلا أن فترة بقائه تحت تصرفها حتى إلغاء الحكومة اليمنية هذه الاتفاقية، في أغسطس/ آب 2013، كشف أن الهدف لم يكن سوى تحييده عن أن ينافس الموانئ الإماراتية.
ولفرض نفوذها في عدن، وصولًا إلى باب المندب والساحل الغربي، انتهجت الإمارات أمام السعودية، استراتيجية ذات وجهين نقيضين، أولهما مستقل استقلالًا كاملًا عن السعودية، والثاني ذو ارتباط محدود بها.
ومن خلال الوجه الأول لهذه الإستراتيجية عملت الإمارات، بكل الوسائل، لما من شأنه تحقيق التكامل بين أهدافها الجيوسياسية في عدن ودول القرن الإفريقي، في سياق تطلعها لأن تصبح قوة إقليمية متحررة من أي هيمنة إقليمية عربية، أما الوجه الثاني للاستراتيجية، فعملت، من خلاله، على التظاهر أمام السعودية، بمظهر “الأخ الصغير”، الذي يراعي أخوه الأكبر.
إزاء الأطراف الداخلية والحرب عموماً، انتهجت الإمارات، خلال الخمس سنوات الأولى (مارس/ آذار 2015- فبراير/ شباط 2020)، استراتيجية “الاقتراب المباشر”، وفي فبراير شباط/ 2020، تحولت الإمارات إلى استراتيجية “الاقتراب غير المباشر”، بعد تهيئة الظروف اللازمة لحلفائها في عدن..
إلا أن حضورها البارز في أرخبيل سقطرى كشف عن أنها اختارتها عوضًا عن عدن، وفقًا لاستراتيجيتها الأولى “الاقتراب المباشر”، وذلك بدعمها المجلس الانتقالي لانتزاع الأرخبيل من الحكومة في إبريل/ نيسان 2020، وشروعها في بناء قاعدة عسكرية غربي الجزيرة الأم (سقطرى)، بالتعاون مع إسرائيل.
واعتمدت الإمارات في استراتيجية “الاقتراب المباشر” على أدوات القوة الخشنة، التي مثلتها وحدات من مختلف صنوف قواتها المسلحة، البرية والجوية والبحرية، والقوات الخاصة، علاوة على قوات سودانية، ومرتزقة أجانب من شركة بلاك ووتر، ومرتزقة كولومبيين، إلى أن تمكنت من إنشاء، وتدريب، وتسليح تشكيلات قتالية “ميليشيات” تابعة للمجلس الإنتقالي، الذي يمثل الوكيل الراعي لمصالحها في عدن وسقطرى، وعززت هذه الأدوات بمجموعة من الأدوات الناعمة، مثل: الإعلام، والمال السياسي، والعمل الإغاثي.
مع بدء سحب قواتها من عدن، أواخر عام 2019، كانت الإمارات تنفذ استراتيجية “الإقتراب غير المباشر” في عدن وغيرها من المحافظات الجنوبية، بعدما أوكلت مهمتها إلى المجلس الإنتقالي الذي مكنته من السيطرة على عدن في أغسطس/ آب 2019، إذ اتضح أنها أوعزت ودعمت المجلس الإنتقالي لمهاجمة القوات الحكومية، وطردها من عدن، ولم تُكمِل انسحاب بقية قواتها منها إلا في مطلع عام 2020، بعدما ضمنت سيطرة المجلس الانتقالي على عدن.
ومما لا جدال فيه أنه في كافة مراحل التدخل الإماراتي، المباشر وغير المباشر، كان دور الإمارات واضحاً في إحباط أي محاولة تهيئ للرئيس عبد ربه منصور هادي، ولكافة من تعاقبوا على رئاسة الحكومة، الإستقرار الدائم في عدن، لتكون عاصمة مؤقتة، وقد اتضح ذلك من خلال الممارسات التالية:
- إستخدام القوة لإعاقة عودة الرئيس، عبد ربه منصور هادي، إلى عدن، كما حدث في منع طائرته من الهبوط في مطار عدن، في فبراير/ شباط 2017، وإجباره على التوجه إلى جزيرة سقطرى.
- زعزعة الأمن والإستقرار، وإضعاف أداء الأجهزة الحكومية في عدن.
- مساندة قوات المجلس الانتقالي الجنوبي، بالعربات المدرعة، والأسلحة، وضربات الطيران، أثناء أحداث أغسطس/ آب 2019.
- الدعم السياسي للمجلس الانتقالي الجنوبي، بفرض اتفاق الرياض، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، والمماطلة في تنفيذه.
عدن في الإستراتيجية السعودية:
تنطلق الأهداف السعودية في المناطق الجنوبية لليمن، بدرجة أولى، من رؤية أيديولوجية تتعلق بالحؤول دون سيطرة الحوثيين الموالين لإيران، على هذه المناطق، وتتركز أهدافها في عدن في الوقت الراهن، حول الأهمية العسكرية التي يمكن أن توظفها في مواجهة النفوذ الإيراني في خليج عدن ومضيق باب المندب، من خلال وجود تعاون عسكري مباشر أو دعم أي نظام سياسي يضمن ذلك.
في هذا الإتجاه، لوحظ أن استراتيجية السعودية في عدن، تمثل في الحضور السياسي والعسكري عقب أحداث أغسطس/ آب 2019، للحلول محل الإمارات التي سحبت معظم قواتها منها مطلع عام 2020، وبرز التأثير السياسي السعودي من خلال نشاط السفير محمد آل جابر، وقائد قوات الواجب التابعة للتحالف في عدن، العقيد مجاهد العتيبي، والقائد الحالي العقيد غالب الحربي.
فيما يبرز ما يسمى “البرنامج السعودي لتنمية وإعمار اليمن”، كقوة ناعمة مؤثرة رسمياً وشعبياً. وإلى ذلك، أضاف اتفاق الرياض وآلية تسريع تنفيذه قوة ناعمة أخرى للسعودية، لفرض نفسها في عدن؛ إذ تعد المشرف والضامن على تنفيذ هذا الاتفاق وآليته.
وبعبارة أخرى، يمكن القول إن السعودية عملت على التقاسم المبكر لمكاسب الحرب في المناطق الجنوبية، حين اكتشفت، في لحظة ما، أنها انشغلت عن هذه المناطق بالخوض في حرب لا ثمار واضحة لها مع الحوثيين، على حدودها الجنوبية مع اليمن، وتركت الإمارات تستأثر بالجنوب، وتُشكِّله وفقا لمصالحها الخاصة.
عدن في إستراتيجية أطراف الصراع الداخلي:
يقتصر الصراع الراهن في عدن، من حيث هوية أطرافه الداخلية، على الحكومة المعترف بها دولياً، والمجلس الإنتقالي الجنوبي، الذي يسعى إلى فصل الجنوب عن الشمال، إلا أن الحوثيين، بوصفهم عدوًا مشتركًا لهذين الطرفين، ترتبطون بطريقة غير مباشرة في هذا الصراع؛ حيث يمثل لهم فرصة لإضعاف الطرفين، وتوظيف النتيجة في اتجاه مشروع الحوثيين أنفسهم، وحليفتهم إيران التي كان هدفها من السيطرة على عدن، خلق تكامل في نفوذها وسيطرتها بين مضيق باب المندب من جهة، ومضيق هرمز، الذي تتحكم فيه، من جهة أخرى.
ومثلما تحاول الحكومة المعترف بها دوليًا، اتخاذ عدن عاصمة سياسية مؤقتة عوضًا عن العاصمة صنعاء التي يسيطر عليها الحوثيون منذ سبتمبر/ أيلول 2014، إلى أن يجري استعادتها، فإن المجلس الانتقالي يستميت في التشبث بعدن سعيًا منه لأن تكون عاصمة الجنوب بعد وقوع الانفصال الذي يسعى إليه.
تثابر الحكومة، ومثلها المجلس الانتقالي، في جعل السيطرة على عدن منطلقًا للخطوة التالية، سواء بواسطة القوة الخشنة أو المساعي الدبلوماسية، وقد مثلت أحداث أغسطس/ آب 2019، صورة واضحة لخيار القوة التي يعتمد عليها المجلس الإنتقالي، لفرض إرادته السياسية؛ حيث انتزع عدن بالقوة من قبضة الحكومة، ولا يزال كذلك، ولكن في موضع الدفاع عنها، من الحكومة التي تحاول استعادتها بقوة مماثلة، رغم المساعي الدبلوماسية القائمة، التي جسَّدها اتفاق الرياض عام 2019، غير أن تعارض الأهداف الحقيقية لطرفيه، جعلت منه وسيلة بيد قطبي التحالف، لاستكمال أجنداتهما الحقيقة من التدخل في اليمن.
تسيطر على عدن سلطة أمر واقع، يمثلها المجلس الإنتقالي الجنوبي، وذلك منذ منتصف أغسطس/ آب 2019، ويمكن استعراض الوضع الراهن فيها على نحو ما يلي:
الوضع السياسي..!
بناء على آلية تسريع تنفيذ اتفاق الرياض المعلن عنها أواخر يوليو/ تموز 2020، كلف الرئيس عبد ربه منصور هادي، رئيس الحكومة السابق، مَعِين عبد الملك، بتشكيل حكومة جديدة، ثم أصدر قرارًا بتعيين العضو في هيئة رئاسة المجلس الانتقالي الجنوبي، أحمد حامد لَمْلَس، محافظاً لمحافظة عدن، وفي سياق ذلك أعلن المجلس الانتقالي الجنوبي إلغاء العمل بالإدارة الذاتية التي أعلن عنها في إبريل/ نيسان 2020.
والواقع أن إلغاء الإدارة الذاتية بعد تعيين المحافظ الذي ينتمي إلى المجلس الإنتقالي الجنوبي، نقلت الإدارة السياسة لمحافظة عدن، من اليد اليسرى للمجلس الانتقالي إلى يده اليمني، مع بقاء مساحة صغيرة للحكومة في المستويات الإدارية العليا التي يحتفظ بسلطاتها الوزراء الذين يديرونها من خارج البلاد، مثل: البنك المركزي، والموانئ، ودواوين الوزارات.
يقوم المحافظ بالدور السياسي، بوصفه حاكماً لعدن، وبتوافق الحكومة والمجلس الانتقالي، لكنه يواجه تحديات عديدة، في ملفات الأمن، والاقتصاد، والصحة، والطاقة؛ إذ تشير الأوضاع في عدن، إلى أن معظم هذه الملفات لا تزال دون حلول تذكر، رغم مرور حوالي أربعة أشهر على توليه المنصب..
فيما يُعزى ذلك إلى تعثر تشكيل الحكومة، وعدم تسلُّم مدير أمن (شرطة) عدن الجديد مهامه، خلفًا للمدير السابق، شلال شايع، الذي لا يزال يمانع من تسليم عهدته لخلفه الجديد، الذي عُيِّن في منصبه بناءً على آلية تسريع تنفيذ اتفاق الرياض.
الوضع العسكري والأمني..!
لم يعد للحكومة أي وجود عسكري في عدن منذ سيطرة المجلس الانتقالي عليها في أغسطس/ آب 2019؛ حيث نجح المجلس في الحفاظ على مكاسب أحداث أغسطس/ آب 2019، ونقل المواجهات مع القوات الحكومية إلى مناطق من مديرية خَنْفَر بمحافظة أبين، تقع على بعد نحو 70 كلم من عدن.
ويقوم المجلس الانتقالي بمضاعفة عدد قواته، وتعزيز سيطرته على عدن، وتخريج مقاتلين في تخصصات مختلفة، والحصول على أنواع من أسلحة المشاة، والطائرات غير المأهولة (المسيرة من بعد).
من الناحية الأمنية، يفرض المجلس الانتقالي سيطرته الكاملة على عدن، والأجزاء المتاخمة من محافظة لحج، بواسطة قوات الحزام الأمني التابعة لألوية الإسناد والدعم، فيما تقوم وحدات فرعية من هذه القوات مع قوات أمن المنشئات، بفرض سيطرتها على المنشئات الاستراتيجية، مثل: المطار، والميناء، والبنك المركزي، وشركة المصافي. ومع أن المجلس الانتقالي قام بربط وحدات إدارية من بعض الوزارات بهيئاته، إلا أن الإدارة العليا لا تزال في قبضة الحكومة، وتدار من بُعد.
يمكن النظر إلى مستقبل مدينة عدن من خلال جملة من السيناريوهات تأخذ بعين الاعتبار استراتيجيات الأطراف الداخلية والإقليمية المنخرطة في الصراع وما حققوه من مكاسب وما يمتلكوه حالياً من نقاط قوة ومكامن ضعف على النحو التالي:
عودة عدن، سلمياً، إلى كنف السلطة الشرعية..!
يعتمد هذا السيناريو على تنفيذ اتفاق الرياض وآلية تسريعه، خصوصًا مُلحقَيه العسكري والأمني، وفي هذه الحالة تعود مؤسسة الرئاسة، من مقر إقامتها في الرياض، إلى عدن، ممثلة بالرئيس عبد ربه منصور هادي، ودون نائبه علي محسن الأحمر، الذي قد يستقر في محافظة أخرى..
وتعود مع الرئيس الحكومة التوافقية المشكَّلة، وتصبح عدن عاصمة مؤقتة، يشارك المجلس الانتقالي، أكثر من أيّ حزب سياسي، في إدارتها سياسيًا، عبر حاكمها (المحافظ) الذي ينتمي إلى المجلس الانتقالي، والمشاركة، أمنيًا، ضمن ممثلين عنه في قيادات وزارتي الدفاع والداخلية، بما في ذلك شرطة عدن.
إعادة عدن، عُنوةً، إلى كنف السلطة الشرعية..!
يشير هذا السيناريو، في حالةٍ منه، إلى سقوط اتفاق الرياض، وكل ترتيباته، وآلية تسريعه، بعد استنفاد الحكومة كافة الوسائل السلمية، وإصرار المجلس الانتقالي على رفض تنفيذ الملحقين، العسكري والأمني؛ حيث قد تلجأ الحكومة (ما قبل اتفاق الرياض)، إلى فرض إرادتها السياسية، لاستعادة عدن، بواسطة القوات المسلحة، في عملية أقوى من العملية التي نفذتها نهاية أغسطس/ آب 2019.
وفي حالة أخرى من السيناريو، قد يكون اتفاق الرياض، وآلية تسريع تنفيذه حاضرين؛ بحيث يكون الخيار العسكري وسيلة للضغط التدريجي على المجلس الانتقالي، عبر سلسلة معارك ناجحة في مدى زمني بين (4-6) أشهر.
إعادة عدن، شكليًا، إلى كنف السلطة الشرعية..!
في هذا السيناريو، قد تُشَّكل الحكومة التوافقية، ثم تعود إلى عدن، والإبقاء على مؤسسة الرئاسة في الرياض؛ بحيث يجري تأجيل تنفيذ الملحقين العسكري والأمني إلى أجل مسمَّى ومتفقٍ عليه، إلى أن تباشر الحكومة عملها، على أن تضمن السعودية، بوصفها المشرف اتفاق الرياض، تنفيذ ذلك خلال الأجل المحدد، بما يحقق للمجلس الانتقالي مطالبه بإخراج القوات الحكومية التي دخلت شبوة وأبين، خلال أحداث أغسطس/ آب 2019.
وقد يؤدي هذا السيناريو إلى بقاء الوضع في عدن على نحو ما هي عليه مدينة (ميناء) الحديدة، بعد توقيع اتفاق ستوكهولم بين الحوثيين والحكومة، عام 2018.
أثارت هذه الورقة استراتيجيات الأطراف الإقليمية المتصارعة في عدن، ممثلة بالإمارات والسعودية، وإلى جانبهما طرفي الصراع الداخلَّيين فيها، وهما: الحكومة، والمجلس الانتقالي.
حيث بدأت باستعراض أبرز خصائص وتأثير عدن، من منظورين جيواستراتيجي، وجيوسياسي، وقوَّمت الوضع الراهن فيها، في مجال الأداء السياسي والعسكري والأمني لقياداتها، ثم وضعت استشرافًا مُتَصَورًا لمستقبل عدن ومينائها.
توصلت الورقة إلى أن الصراع على عدن، بين الإمارات والسعودية، يُدار بوجهات واستراتيجيات مختلفة، تُسقط فيه الإمارات مخاوفها الأيديولوجية من الحوثيين وإيران، وتقدم مصالحها الجيوسياسية المادية، وعلى النقيض من ذلك موقف السعودية، مع اختلاف نسبي قياسًا بصراعها مع الحوثيين في الشمال.
ووجدت الورقة، كذلك، أن المجلس الانتقالي يزداد نفوذه في عدن، من خلال تعظيم القوة العسكرية، وأن كل السيناريوهات مفتوحة للوصول إلى حل بينه وبين الحكومة، لكن هذا الحل لن يضع عدن، وقتًا طويلًا، في قبضة أي منهما؛ لاختلاف أهدافهما الحقيقية، والتوجهات المتعارضة بين قطبي التحالف.
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات