20 عاماً على رحيل الشاعر السيد محمد علوي “أبو قرنين“.. إنهم يحرثون في البحر..!
بقلم/ ناصر توفيق
بالكلمات ذاتها كلمات الحزن والفاجعة نكتب، نلملم اشلاءنا على جبهات الحياة، نكثف أحزاننا في (شكل كتاب) لنستعيد الاحساس بآدميتنا .. انهكنا الرحيل على بساط العقد الأخير ويعصف بنا الحنين الى جيل الريادة أرباب الكلم ، قناديل التنوير والآراء الطليقة حين كان الصمت ترفاً.
نعيد النظر في الأفق البعيد فلا نرى إلا الامداء الخاوية والجثث المتعفنة وباعة الأصناف ، دائماً يتألف هؤلاء نحو الذرى على هوادج زلقة..!
بالحبر الرطب وسطوة الحزن والغضب نكتب ، نطل على عالم الشعر فإذا الحرف النازف مصلوباً على جبين “السيد محمد علوي أبو قرنين” والكلمات الصاخبة تعبر الأسلاك الشائكة.. قصائد خلف القضبان موجوعة بجراح الوطن وحماقات الساسة..!
روحانيات تفنى ولها بالفطرة الإيمانية في ذات الخالق وتذوب جداً في وهج النبي (ص) بقلب ارقة الشوق الى اللقيا عند مثواه.. غزليات تتسامى بالحب والجمال تأخذ الألباب وتستاثر بالافئدة كلما تناهي الى السمع رنين الخلاخل والهمس الدافئ من ثغر طروب تحكم المشي تيهاً – وأن شاءت – ( لها خصر لو لا رحمة ربي لأنكسر)..
فلا يملك المرء نجاة دون الامتثال لسلطان المشاعر وقانون الجاذبية الذي يجمع الإنسان بشطريه..! وفي جزر “أبو قرنين” التمثيلي والتغني بالطبيعة.. غير ارتياد الشعر الفكاهي الساخر كنوع غير مطبوع – على حد علمي – عند فرسان الشعر الشعبي في أبين وتحديداً الاوتار الحادة التي تؤلف قيثارته.
نجيل النظر في البدايات الأولى لبواكير الوعي بقضية الوطن، يوم هوت صنعاء واستباحث القبائل المدينة العتيقة.. حين ضاق صدر اعرق الديمقراطيات بالرأي.. كانت “أحور” حاضنة المنفيين.. علي الضبة ، قاسم بن غالب الاحمر ، إدريس حنبلة ، عبد اللطيف كتبي عمر ، سيف المفلحي ، على أن علاقته بالسيد الضبة تجاوزت حدود المثاقفة والهم الوطني والزمالة المهنية الى (المصاهرة) التي تجعل (النسب عصب ولو طال يبقى أهل) على رأي أهلنا في مصر.
الا أن الضبة غادر أحور قبل ثورة سبتمبر الى أبين وتعرض فيها لمحاولة إغتيال دنيئة قيل إن الضابط السياسي كان يقف وراءها ، ثم اتجه الى بيحان وانقطعت أخباره الى أن حمل رسول الوحده الاستاذ/ عمر الجاوي رسالة منه الى بنية وزوجه في أحور.
ومن محطات الرحلة العام 1956م ، شاهداً على ميلاد شاعر اجتاز لحظات الخوف ومطلع القصيدة ، في حضرة ساسة ومثقفين أدباء وقادة رأي تنادوا على اختلاف الانتماءات ، لسماع الشاب القادم من الريف في منزل الزعيم العمالي محمد علي سالم عبده الذي كان المتظاهرون يحملوه على أكتافهم ويهتفوا ( محمد سالم .. عدو الظالم ) وهو صاحب امتياز صحيفة ( البعث ) ورئيس التحرير.
ولعل التصاقه بالوسط السياسي والمنتديات الادبية في عدن ، قد فتح نوافذ جديدة لأشكال التعبير عن الرأي، ولذلك قاد الشاب محمد في ذات العام أول تظاهرة سياسية احتجاجا على زيارة الحاكم العام لعدن ” هوتم بوتم ” الذي وصل الى أحور على متن مروحية سلاح الجو الملكي.
مرة أخرى نحدق ملياً في ارزاء السيرة والخاتمة المأساوية.. اكتسى وجه صاحبي بالحزن والنظره الكسيحة: اعفيناهم عن العلاج والسلطة لا تعرف أبي.. ولا تجيز التعزية.. لماذا الاستئذان”..!
يا سيدي.. أنها إشكالية العلاقة بين الشاعر والسلطة التي لا تطيق وجوده ، وتتمنى دفنه وشعره معاً والغاءهما من ذاكرة الزمن..؟!
طفت الى سطح الذاكرة زيارتي للشاعر في مرضه قبل الأخير، كان الرجل مضطجعاً على سريره نصف عاري على عادة المرضى ساعات الظهيرة، تجاذبنا أطراف الحديث الهادئ ، لحظت على وجه الشاعر غبار المنحدرات وحوافر الزمن السفيه التي غطت نضارة دلت على بهاء غابر، وأن لم تخفي نورانية تتقد بالإيمان.
حين نهض الرجل بإتجاه الردهة مضيت بجانبه ، أردت أن أسند الشيخ الجليل فشبكت خمسي بخمسه ، لكنه ضغط على يدي بقوة (ففهمت العبارة) وأثناء عودته انتظرت أرقب خطوه بالسير الوئيد حتى وقف أمامي تماماً، و على شفتيه نصف ابتسامه ، ثم وضع يداً فوق يد فإذا هو رفيع القامه كأنه تمثال للعقل والحكمة..!
وفي باحة المستشفى، كنت أدلك أصابعي في عجل ولا مبالاه ، فوجدت نقشاً ماثوراً على صفحة الكف: الشعر لايشيخ…!
حين أنطفأ قلب الشاعر السيد محمد علوي بو نمي المكنى ( ابو قرنين ) في عدن المدينة الحاضنة لفاتحة القصيد على لسان الشاعر العام 56م في منزل النقابي البارز محمد سالم علي.. الخمسينات زمن التحدي والكبرياء وعنفوان الفتى المسكون بهاجس الحرية وأزمة السويس وقلق الانتظار لصوت عبدالناصر ..
اربعاً وأربعين عاماً تتناسل القصائد وتسيح المشاعر ، وتستوطن القلب وتمتطي مخاطر، الشعر بالكلمات الممنوعه من الصرف ” في أشد الأوقات ظلاماً..” أبو قرنين “ذاكرة الأحداث وجذوة الشعر ووتره المكشوف بسيرة عطرة للشعراء “الذين آمنوا” ..
وفي المرحلة وجوه لا تنسى في ذاكرة الوطن على الضبة ، محمد سالم علي ، عمر الجاوي ، وحسين أبوبكر المحضار .. والمواقف عنواناً بارزاً .. المجلس التشريعي الإستقلال التوحد بالأرض اتحاد الادباء 72م
والسجن.
وفي ساعة الوداع الأخيرة سار خلف الشاعر الآلاف التي غصت بهم “أحور” .. وجوه من مختلف من الأجيال والمراحل شباب وصبية وشيوخ قطعوا السهل والجبل متوكأين على مراكب اعتادو عليها في التنقل بين البوادي أو على مراكب من كل أصقاع الوطن.. وفاء جميل.. في لحظات الغروب الجليل..
دفن “أبو قرنين” لكن أشعاره لم تدفن بجواره ؟.
أوووه.. إنهم يحرثون في البحر..!!