لماذا يُصعّد الحوثيون هجماتهم بالمُسيّرات والصّواريخ الباليستيّة على العصَب الأهم للصّناعة النفطيّة السعوديّة؟ وما عُلاقتها بالحرب المُستَعِرَة في مأرب وفشَل المُفاوضات السريّة في مسقط؟ وكيف كان الرّد الحوثي الرّفض المُطلَق للمطالب الأمريكيّة “التعجيزيّة”..!
بقلم/ عبدالباري عطوان
شنّت قوّات “أنصار الله” الحوثيّة يوم الأحد هُجومًا ضخمًا بالطائرات المُسيّرة “المُلغّمة” والصواريخ الباليستيّة المُجنّحة على قلب صناعة النّفط السعودي في الظّهران وميناء رأس تنورة حيث يُوجد في الأخيرة مصفاة ضخمة وأكبر رصيف في العالم لتصدير النفط.
حسب البيان الصّادر عن العميد يحيى سريع، الناطق باسم القوّات العسكريّة اليمنيّة التّابعة لأنصار الله، جرى هذا القصف باستِخدام 14 طائرة مُسيّرة، و8 صواريخ باليستيّة، وفي إطار هجمات أُخرى على مُنشآت تابعة لشركة أرامكو في جيزان وعسير والدمام، ممّا يعني أنّ هُناك خطّة مُحكمة لاستهداف صناعة النّفط السعوديّة، وموانئ صادراتها وهزّ الثّقة العالميّة فيها، وبالاقتِصاد السّعودي المُعتَمِد عليها كُلِّيًّا، وإلحاق أكبر قدر مُمكن من الخسائر الماديّة.
هُناك مُؤشّران يُمكن من خِلالهما قِياس خُطورة هذه الهجمات، وحجم الضّرر المادّي والمَعنوي الذي ألحقته بالحُكومة السعوديّة:
الأوّل: ارتفاع أسعار برميل النّفط إلى ما فوق 70 دولارًا (خام برنت) وللمرّة الأولى مُنذ عامين، ممّا يعني للوهلةِ الأولى حُدوث مخاوف من انخِفاض مُعدّلات الصّادرات النفطيّة السعوديّة في الأسواق العالميّة.
الثاني: توجيه السّفارة الأمريكيّة تحذيرًا إلى رعاياها في المنطقة الشرقيّة، أيّ الظهران والدمام بشَكلٍ خاص، باتّخاذ كُل إجراءات الحذر، وعدم التنقّل تَحسُّبًا لسُقوط صواريخ باليستيّة حوثيّة في المِنطقة، وهُناك حواليّ 6000 مُواطن أمريكي يتواجدون في المدينتين، حيث يُوجد المقر الرئيسي لشركة “أرامكو” العِملاقة.
اللّافت أنّ هذا الهُجوم يأتي قبل أيّام معدودة من مُرور الذّكرى السّادسة لاندِلاع الحرب اليمنيّة، ودُخولها عامها السّابع، دُون أن تُحقّق أيّ من أهدافها وأبرزها هزيمة الحركة الحوثيّة ورفعها الرّايات البيضاء، واستِعادَة السّيطرة على صنعاء العاصمة، وإعادة الحُكومة الشرعيّة اليمنيّة بقِيادة عبد ربه منصور هادي إليها.
لا يُمكِن فصل هذا التّصعيد عن تطوّرين أساسيين في المِلف اليمني:
الأوّل: الحرب الشّرسة الدّائرة حاليًّا في مدينة مأرب الإستراتيجية وحيث تواجد احتِياطات النّفط والغاز وإصرار الحركة الحوثيّة وأنصارها على السّيطرة الكاملة عليها، باعتِبارها آخَر معاقل الحُكومة الشرعيّة في اليمن الشّمالي، وهزيمة الحركة لجبهة قويّة من الخُصوم الذين يتَصدّون لهُجومها ومنعها من دُخول المدينة، وعلى رأسهم حركة الإصلاح الإسلاميّة (إخوان مُسلمين) وقوّات تابعة لحزب المُؤتمر اليمني المُوالية للرئيس الراحل علي عبد الله صالح، ووحدات من تنظيم “القاعدة”، علاوةً على وحدات تابعة لجيش الشرعيّة.
الثّاني: فشل جولة من المُفاوضات غير المُباشرة (عبر الوسيط العُماني) بين المبعوث الأمريكي إلى اليمن، ووفد يَضُم حركة “أنصار الله” جرت قبل أسبوع في مدينة مسقط، وجاء هذا الفشل، حسب مصادر حوثيّة موثوقة، بسبب مُطالبة المبعوث الأمريكي للحركة بوقف الحرب والتّراجع عن هُجومها على مأرب فورًا، والامتِناع عن إطلاق الصّواريخ والمُسيّرات لضرب العُمق السّعودي، وقُوبِلَت هذه المطالب بالرّفض التّام لأنّ الوفد الحوثي اعتبرها مُتغطرسة ومُخالفة للوقائع على الأرض، وقالوا بالحرف الواحد للمبعوث الأمريكي، من بدأ هذه الحرب عليه إيقافها، ورفع الحِصار الكامِل عن اليمن، وميناء الحديدة تحديدًا، وفتح المطارات، والدّخول في مُفاوضاتٍ حول التّعويضات.
الحرب على اليمن التي أشعل فتيلها الأمير محمد بن سلمان، وليّ العهد ووزير الدّفاع، أعطت نتائج عكسيّة، من حيث بُروز حركة “أنصار الله” كقوّة يمنيّة مُؤثّرة، وتوفير قاعدة نُفوذ سياسي وعسكري قويّة لإيران في جنوب الجزيرة العربيّة، وزعزعة إستقرار السعوديّة وهزّ سُمعتها وقِيادَتها الإسلاميّة، وتورّطها في حربِ استِنزافٍ ماليّ وعسكريّ قد تطول.
حركة “أنصار الله” الحوثيّة بامتِلاكها صواريخ باليستيّة عالية الدقّة، وبمدى يَصِل إلى أكثر من ألف كيلومتر، باتت تُشَكِّل تهديدًا استراتيجيًّا لصِناعة النّفط، والعُمق السّعودي، لأنّ كُل المنظومات الصاروخيّة الدفاعيّة الأمريكيّة الصّنع (باتريوت) فشلت فشَلًا ذريعًا في حِماية البُنى التحتيّة النفطيّة السعوديّة، ونجحت هذه الصواريخ والطائرات المُسيّرة في الوصول وضرب أهم المُنشآت النفطيّة السعوديّة في بقيق وخريص (سبتمبر عام 2019) ممّا أدّى إلى إشعال حرائق وآبار خفّضت إنتاج النّفط بنسبة 50 بالمئة لعدّة أشهر..
وفي الظّهران وميناء رأس تنورة حيث تمّ تحميل وتصدير أكثر من سبعة ملايين برميل من النفط يوميًّا (الباقي يتم تصديره عبر أنابيب تمتد من المنطقة الشرقيّة إلى ميناء ينبع شمال البحر الأحمر)، كما أنّ هذه الصّواريخ الباليستيّة والمُجنّحة وصلت إلى مخازن وقود أرامكو في قلب ميناء جدّة في تشرين أوّل (نوفمبر) الماضي، ممّا يعني نقل الحرب إلى الحاضنة الشّعبيّة، وكسر نظريّة بقائها بعيدًا عنها.
الحوثيون يقولون إنّهم لن يُوقِفوا إطلاق الصواريخ إلا إذا توقّفت الغارات السعوديّة الإماراتيّة على صنعاء (مُستمرّة مُنذ 6 أيّام) وعلى قوّاتهم التي تشن هُجومًا للسّيطرة على مدينة مأرب، وفكّ الحِصار عن مدينة الحديدية ويبدو أنّ هذه المطالب صعبة التّحقيق، ولهذا فمِنَ المُستَبعد وقف القصف المُتبادَل في الأيّام القليلة القادمة، وربّما يَحدُث العكس تمامًا.
ما يُمكن رصده، سواءً من خَلال القصف الحوثي للظّهران ورأس تنورة وميناء جدة وقبلها بقيق وأبها وخميس مشيط، أنّ هذه الصواريخ أصابت أهدافها بدقّةٍ ولم يترتّب عليها أيّ خسائر بشريّة، حسب رصد بيانات التّحالف الرسميّة، ولكن قد يتغيّر الحال في الأيّام المُقبلة إذا كرّرت طائرات التّحالف السّعودي الإماراتي خطأها الكارثي الذي ارتكبته في بداية الحرب عندما قصفت أعراسًا، ومجالس عزاء، ومصانع ومُستشفيات ومدارس، ممّا أدّى إلى وقوع عشَرات الآلاف من الضّحايا، ونحن ننقل هذا التّهديد عن مصادر مُقرّبة من الحوثيين.
السّؤال الذي يطرح نفسه هو: هل هذا التّصعيد في القصف الصّاروخي يأتي تمهيدًا لاقتِراب مُفاوضات التّسوية برعايةٍ أمريكيّة، ومُحاولة كُل طرف تحسين موقفه التّفاوضي؟ وهل له عُلاقة مُباشرة بالمُفاوضات الأهم الوشيكة بين إيران وأمريكا لإعادة إحياء الاتّفاق النّووي؟
لا نَعرِف الإجابة، ولكن ما نَعرِفه أنّ الطّرف السّعودي سيكون هدفًا لضُغوطٍ مُزدَوَجَةٍ، أمريكيّة أوّلًا، لإحداث تغييرات في القِيادة السعوديّة على رأسِها استِبدال وليّ العهد، ووقف انتِهاك حُقوق الإنسان والإفراج عن المُعتَقلين، وإدخال إصلاحات قضائيّة وسياسيّة جذريّة، وحوثيّة ثانيًا لوقف الحرب، ومعها حالة العداء لطِهران.
باختِصارٍ شديد نقول إنّه إذا كان الرئيس ترامب يُمارس الابتِزاز المالي للسعوديّة، فإنّ إدارة خلفها بايدن تزيد عليه بالابتِزاز السّياسي أيضًا تحت واجهة حُقوق الإنسان، واغتِيال الصّحافي جمال خاشقجي، والذي يُلام هو من قاد المملكة مفتوحة العينين إلى هذه المِصيَدة.. واللُه أعلم