قد يبدو واضحا ، لماذا حظيت الحرب على اليمن بحضور وافر في الأجزاء السابقة من هذه الرؤية ، لكننا نستطيع أن نطرح السؤال نفسه في اتجاه آخر ، لماذا حظيت الحرب على اليمن بأولوية واضحة في خطاب الإدارة الأمريكية الجديدة ، حد إيقاف توريد الأسلحة إلى السعودية ، وتجميد صفقة الإمارات ، والتوقف عن تزويدهما بالمعلومات التي يوفرها الاستطلاع .
لقد جاءت قرارات الإدارة الأمريكية بهذا الخصوص كأن الولايات المتحدة قد خرجت فجأة من بركة مليئة بالدماء والأنقاض والضحايا ، وهي ترفع في يدها باقة كبيرة من الورود البيضاء ، وقد ارتدت إليها روح الإنسانية الغائبة ، ذلك أن هذه الحرب التي تجاوزت أو كادت زمنا وخرابا وحصارا الحرب العالمية الثانية ، صدر قرار إعلانها من واشنطن ، ومن سلطة كان بايدن نفسه الأقرب إلى قمتها ، وبقرار يكاد أن يكون صاحبه الأول ، وقد تتابعت فصولها الدامية بدور عسكري أمريكي مباشر في إدارتها ، وفي أعمالها القتالية ، قبل أن يتم دمج إسرائيل فيها ، وتواصلت لمدة عامين قبل أن تنتقل إلى سلطة أمريكية أخرى ، باعتبارها واحدة من أهم قضبان الإستراتيجية الأمريكية المضادة للإقليم .
ما الذي تغير إذا ؟ أحسب أن هناك ثلاثة مستويات من التفسيرات : في المستوى الأول هناك :
اولا- أن الإدارة الأمريكية الجديدة رأت في التعلل بأكبر أزمة إنسانية وأخلاقية تطول حياة 80% من سكان اليمن بالتجويع والحصار والقتل ، فرصة لأن تضفي على وجهها ملامح إنسانية أفسدتها مواقفها لأكثر من عقدين من الزمن .
وهناك – ثانيا – ما يقال من أن التوجه إلى التهدئة في اليمن ، يشكل جسرا لحوار مع إيران لإبرام صفقة متكاملة ، لا تخص فقط برنامجها النووي ، ومشروع صواريخها الباليستية ، وإنما أيضا إلى ما تحول إلى محطات نفوذ لها ، لكن الأمريكيين والبريطانيين قبلهم يدركون أن القيادة في صنعاء لديها نزعة استقلالية واضحة ، ولن تقبل أن تكون جزءا من صفقة تلحق ضررا بالمصالح الوطنية اليمنية ، لقد قال أوباما يوما أن الإيرانيين لم يطلبوا من الحوثيين دخول صنعاء ، لكن الحقيقة المؤكدة ، أن الإيرانيين طلبوا منهم ألا يدخلوا صنعاء ، بناءا على تنسيق مع السعودية ، وعندما اندفع الحوثيون في اتجاه الجنوب ، لم يكتف الإيرانيون بالقول وإنما مارسوا أعمالا مضادة لدفع الحوثيين إلى إيقاف تمددهم ، وإذا كانت إيران هي أول الداعمين للحراك الجنوبي ( جناح البيض ) فهو الجناح الذي خرج منه عيدروس الزبيدي . وهناك – ثالثا – ما قيل ويقال عن أن الموقف الأمريكي في هذه الحدود ، هو أداة للضغط على السعودية من أجل استنزاف جانب أكبر من أموالها ، وظني أن تحقيق ذلك يمكن أن يكون أكثر فاعلية من خلال استخدام أدوات أخرى ، فلك أن تلاحظ أن الذين رحبوا بقرار ترمب توصيف أنصار الله كمنظمة إرهابية هم أنفسهم الذين رحبوا بقرار بايدن المناقض له ، فالترحيب في الحالتين ليس له علاقة بمضمون القرار وتبعاته ، وإنما بمصدر القرار ، والمصدر في النهاية هو الذي يقرر ويفرض .
• أما في المستوى الثاني من التفسيرات الأكثر عمقا ، فإننا امام ثلاثة تفسيرات واضحة . أولا : أن الحرب نفسها رغم كل ما تم قذفه في ساحتها ، لم يستطع أن يحقق نصرا إستراتيجيا ، بل على النقيض من ذلك ، تحولت من انهيار إستراتيجي إلى انهيار أمني ثم انهيار اجتماعي واقتصادي ، ففي الجنوب موجات من ثورة الجياع والمهمشين ، وفي الغرب غضب وعصيان وانتفاضات ضد عمليات القتل والسلب ، وفيما تبدو قمة المواجهات في (مأرب ) التي كادت أن تتحول إلى مدينة خاصة بالإخوان المسلمين ، فإن عملية تقشير تكتيكي تواصلت على قدم وساق ، للوصول إلى قلب (مأرب ) من قبل الجيش واللجان الشعبية ، ومن المؤكد أن النجاح في الدخول إلى مدينة مأرب سيعني فعليا انتهاء المعارك الكبرى ، والتقدم نحو شبوة وحضرموت اللتين ستعتبران في هذه الحالة في وضع أقرب إلى السقوط إستراتيجيا ، بينما سيزداد اشتعال المواجهات بين قوات ما يسمى بالشرعية وما يسمى بالمجلس الانتقالي تعبيرا عن تصادم المصالح التي تضيق رقعتها بين السعودية والإمارات . ثانيا : إن قاعدة مسلحة في اليمن قد تمرست على أعمال القتال ، دفاعا وهجوما ، وتراكمت خبراتها وأسلحتها على امتداد 6 سنوات ، وقد أصبحت تشكل واحدة من أهم دوائر الخطر ، فالصواريخ في أيدي الحوثيين في أي مواجهة تطول قلب موانئ إسرائيل قبل أن تطول بحر العرب وجانبا من المحيط الهندي ، إن تراكم خبرات القتال وإرادة القتال جنبا إلى جنب مع تراكم السلاح كما وكيفا ، هو بمثابة خطر داهم لم تتأخر إسرائيل في تصنيفه على أنه يشكل نصف دائرة ثانية من التهديدات المباشرة ، التي دخلت في دائرة الأمن الإسرائيلي ، بعد أن اتسع مفهومه إلى مستوى أكبر من تعبير الأمن ذاته . ثالثا: كان اتساع الحيز الزمني والميداني للحرب على اليمن ، وقفز الإمارات والسعودية ومعهما منتوج هذه الحرب إلى القرن الأفريقي بتكوينه الهش ، وما ترتب على ذلك من تحالفات جديدة ، وتناقضات جديدة في تفاعلات بنيته بسلاسلها المتصلة ، أن تحوّل القرن الأفريقي ذاته خاصة امتداداته الإريترية والأثيوبية والسودانية ، إلى منطقة قابلة للاشتعال .
لقد دفعت السعودية والإمارات 2 مليار دولار لإنجاز مصالحة بين أثيوبيا واريتريا حفاظا على قاعدتيهما الجويتين والبحريتين في ارتريا ، وعلى استثماراتهما ، سواء في سد النهضة أو في مشاريع زراعية أثيوبية ، ثم دخلت الإمارات إلى الصراع العرقي داخل أثيوبيا ، فقد استخدمت قاعدتها في ارتريا وطائرتها المسيرة لقصف جبهة التجراي ، بل وامتد تأثيرها المدمر حتى السودان ، لخلق اضطراب كبير في شرقه ، بمشاركة وتحالف مكين مع ارتريا ، وإذا أضفت إلى ذلك الوضع في الصومال ، والوضع في جيبوتي التي أصبحت تضم 6 قواعد عسكرية لدول أجنبية ، فهناك قاعدة أمريكية وأخرى بريطانية ، وثالثة إيطالية ، ورابعة يابانية ، وخامسة صينية ، وسادسة فرنسية ، بينما يمكن إدراك مخاطر امتداد النار في هذه المنطقة من أمرين :
الأول أن المسافة بين القاعدة الأمريكية والقاعدة الصينية ، لا تزيد عن 7 ميل بحري فقط .
الثاني أن هذه القواعد كلها لم تأتِ أساسا من أجل تأمين الملاحة في البحر الأحمر ، أو باب المندب فحسب ، وإنما بالدرجة الأولى لتأمين الوجود العسكري في المحيط الهندي ، وهو ما يعني أن الرقعة المفتوحة لامتداد النيران تطول مسرحا إستراتيجيا بالغ الاتساع . نأتي إلى المستوى الثالث ، وهو الأكثر عمقا ، وأهميته تكمن في أنه يعطي مؤشرين هامين على توجه إدارة بايدن ، لا بخصوص اليمن وإنما بخصوص الإقليم كله . الأول : أن هناك إدراكا لدى الإدارة الأمريكية أن الوكلاء الأمنيين قد فشلوا في الوصول بالإستراتيجية إلى مداها المطلوب ، بل أنهم ساعدوا في تقوية وتثمين مضادات محلية لهذه الإستراتيجية ، حيث بدا أن التفاعلات الكبيرة تأخذ منحنا عكسيا ، ولذلك فإن (الأصيل ) قرر أن يسترد المبادرة في يده المباشرة ، وهناك شواهد واضحة على ذلك فوق الأرض في سوريا وفي العراق سوف يأتي وقتها ، غير أن ذلك لا يعني أن الوكلاء الذين فقدوا أدوارهم الرئيسية لن يتم استيعابهم حسب الحاجة في أدوار فرعية ، فالإمارات – مثلا – وبعد ما أصدرته الإدارة الأمريكية من توجه بخصوص اليمن ، تكفلت طائراتها قبل أيام بنقل الدفعة الثانية من العسكريين الإسرائيليين إلى جزيرة سوقطري لاستكمال إنشاء قاعدة التجسس الإسرائيلية . الثاني : وهو الأكثر أهمية ، أن الإدارة الأمريكية الجديدة تريد إنجازا سريعا لأهدافها الإستراتيجية المباشرة ، لذلك فقد انتهت مع جرد الأوضاع القائمة في المنطقة إلى قرار إستراتيجي هو ( تركيز النيران )على أهداف رئيسية .
نعم، لقد دخلنا في مرحلة ( تركيز النيران )