تميّزت العمارة اليمنية منذ القدم بلمسات جمالية من فن الزخرفة ، وهي وحدة فنية تبدو واضحة الأشكال الفنية في العصور الإسلامية من خلال بناء المساجد والقلاع ، والأدوات الشعبية مثل الأباريق المصنوعة من النحاس الأصفر المرصّع بالفضة والذهب ، والنوافذ والأبواب والقمريات التي تكسو واجهات المباني.
القـمـريـــات..
فـن ما قبل الميلاد وتحفة الحاضر وبركة البيوت
وحدهم ومن بين كافة الحرفيين في اليمن، يظل صُناع عقود النوافذ أو ما يُعرف محلياً (القمريات)، في منأى عن شبح البطالة، وتظل حرفتهم في مأمن من الكساد، لا تخشى الاندثار ولا إحلالاً تكنولوجياً مع تقادم الأزمان، فالقمريات لازمة للمباني في عموم اليمن، جميع المباني بلا استثناء، الكبيرة والصغيرة، الخاصة والعامة، منذ ما قبل التاريخ وحتى ما شاء الله، ربما لأن اليمنيين ورثوا عن أسلافهم اعتقادهم الديني بأن (البيت بلا قمرية هو بيت بلا بركة)!.
وهذا هو سر لزومية (القمريات)، كتقليد معماري يمني عام، لم ينحصر تاريخياً في مباني قصور الحكم والمعابد الداخلية في العمارة اليمنية). ويقول: (انفتاح البيت الصنعائي على الخارج فرض نوعاً من الإبداع الفني المخصص للناس جميعاً، فالقمريات والفتحات والنوافذ، توزع جمالها إلى الطرفين، فيتمتع الساكن-أيضاً- بالنور المتسرب من الفتحات عبر القمريات الزجاجية الملونة فيزداد داخل الغرف فتنة ويتمتع ساكن المدينة بسعادة التعايش مع نور الطبيعة الذي لامسته يد الفنان الصانع).
ويخلص د.بهنسي في دراسة له إلى (أن الفن في العمارة الصنعائية هو فن للمدينة وسكانها والعابرين فيها، فن ذو وظيفة اجتماعية متبادلة) و(هوية أصيلة لا نراها مستمدة من عناصر غربية) وأن (الجمال الفني في العمارة الصنعائية كان من صنع الوظيفة وليس العكس). ويقول: (لقد أغنت العناصر الإبداعية العمارة في صنعاء، بل أغنت الوظيفة ذاتها، ..فالواجهات المعمارية الجمالية تصافح رؤية السكان المجاورين فتجعلهم يتمتعون بها أكثر من صاحب السكن ذاته أحياناً).
وعلى الصعيد الوظيفي يشير أستاذ الفنون التطبيقية بجامعة حلوان المصرية د.محمد زينهم إلى أن من وظائف القمريات إلى جانب ترشيد كم الضوء الداخل للمكان (منع الحشرات التي تتسلل من خارج المبنى، ومنع الأتربة، وتخفيف الأحمال على الأعمدة الحاملة للعقود، ومن هذا يتضح أن لها قيمة وظيفية أساسية نفعية إلى جانب القيمة الجمالية التي تتصل بالإنشاء من جانب وبالتصميم الداخلي للمكان من جانب آخر غير مغفلة للجوانب الروحية بما تغطيه من سكينة وروحانية للمكان).
* رواج حــرفي
لا توجد اليوم إحصائية بعدد معامل صناعة القمريات في اليمن، لكن غياب هذه الإحصائية يدل على رواجها حداً يعصى على الحصر في مختلف أرجاء اليمن، التي لا يخلو حي في مدنها ولا تخلو قرية في ريفها من معمل قمريات واحد على الأقل، وكما في الماضي، لازالت صناعة القمرية وزخرفتها تنجز في المعامل وتنقل كوحدات معمارية مستقلة يتم تثبيتها بالجبس داخل إطارات مبنية من الحجر أو الياجور بشكل عقود مفرغة في متن المنزل.
كما إن حرفة صناعة القمريات لا تُدرس في أي من معاهد التعليم الفني والتدريب المهني، قدر ما تُكتسب بالممارسة، ويجري غالباً توارثها داخل الأسرة، وهي حتى اليوم تشهد تزايد أعداد المشتغلين فيها، ويؤكد أحدهم إبراهيم العواضي أن القمريات (صناعة مزدهرة ومتطورة وكل يوم يزيد إقبال الناس عليها لكونها لازمة البيت اليمني)، بعكس حرفيي سائر المهن والحرف اليدوية التقليدية الأخرى التي اندثرت وانفض حرفيوها عنها بعد اكتساح البديل التكنولوجي لما ينتجونه.
يستخدم حرفيو القمريات آلات بسيطة مجرد سكين وفرجار وبعض آلات حفر بدائية أخرى، في مقابل اعتماد هذه الحرفة على الموهبة والخيال أو الحس الفني بالضرورة في إنتاج عمل فني دقيق يلبي حاجة الزبون ورغبته من ناحية النقوش والأشكال الزخرفية التي يفيد أحد العاملين في هذا المجال أن حفرها (أدق مرحلة في صنع القمرية) وأن حصيلة هذه الأشكال (تفوق اليوم المائتي نقش وفي تطور مستمر استجابة لنزعة الناس للتجديد ورغبتهم في التميز).
مع هذا تبرز فئات رئيسة لهذه الأشكال الزخرفية، منها فئة الأشكال الهندسية، وأبرزها النجمة الثمانية تتوسط دائرة، والنجمة السداسية أيضا التي انتشرت لفترة من الزمن إثر اشتغال اليمنيين اليهود في صنع القمريات. يُضاف إلى هذين النمطين، فئة زخارف نباتية عديدة محورة عن الطبيعة، أبرزها سنبلة القمح، وورقة البن والعنب، والريحان، وحبوب الرمان، وغيرها من نباتات البيئة اليمنية، ثم تأتي فئة الأشكال الحيوانية، وهي في أغلبها أنماط حيوانات من القصص والأساطير الشعبية القديمة.
ويبدأ صنع القمرية بتشكيل عجينة نصف دائرية متماسكة من الجبس على لوح خشبي، ثم رسم النقوش والأشكال الهندسية المطلوبة للقمرية على هذه البلاطة، ثم حفر فراغات هذه الخطوط بسكين خاصة لتشكيل فجوات تخترق سمك البلاطة ولها أضلع بسمك 1.5 سم، وبعد (3-4) أيام، تنزع البلاطة من اللوحة ويبدأ قص الزجاج الملون بمقاسات تزيد قليلاً عن فجوات النقوش المحفورة، وتصب عليها خلطة الجبس السائلة حتى تجف فيكشطها من فوق الزجاج.
ويحرص اليمنيون على اقتناء القمريات بأحجام وأشكال وألوان تتناسب وحجم البيت وفخامة بنائه وبالطبع مكانة صاحبه.إذ يتفاوت سعر (القمرية) بحسب الحجم وشكل النقش ونوعية خامة الزجاج الملون المستخدم، والأخير ينحصر في نوعين رائجين محلياً: أحدهما هندي وهو الأرخص، والثاني ألماني وهو أغلى ثمناً، لكونه وفق حرفيي القمريات (أجود أنواع الزجاج ويتميز بدوام ألوانه مدى الحياة بينما الهندي يفقد بريقه وتبهت ألوانه مع مرور الوقت بفعل أشعة الشمس). كما يتباين الاعتناء بحجم وشكل القمرية ونوعيتها من غرفة إلى أخرى، فعادة ما تكون قمريات الدواوين (غرف الاستقبال) أفخر وأكبر لاتساع نافذاتها، وبالمثل أعلى غرفة في المنزل (المفرج أو المنظر) تتسع نوافذ جدرانها الأربعة لتسمح للقابع فيها الإطلال على البساتين والمدينة حوله، وتخصص لرب الأسرة وجلساته مع أصدقائه، وتكون دائماً هي الغرفة الأوفر حظاً بأفخر أشكال القمريات وأكبرها حجماً وأجودها زجاجاً.
* تأثــير مستمــر
وإذا كانت القمريات أحد أبرز ملامح التأثير اليمني في فن العمارة الإسلامية التي تجسدت في أرجاء الدولة الإسلامية على أيدي عمارين يمنيين ظل الخلفاء وقادة الفتوحات الإسلامية يوكلون إليهم مهمة العمارة لرصيدهم المعرفي والحرفي في البناء، حسب المؤرخين لتاريخ هذا الفن ومنهم الدكتور جمعة قاجة؛ فإن (القمرية) اليمنية بشكلها المعاصر، مازالت تؤثر في طابع العمارة العربية الحديثة وتحديداً العمارة العراقية، كما يحدثنا الكاتب والصحافي العراقي نزار خضير العبادي.
يقول العبادي إن: (التقليعة العراقية الجديدة في الفن المعماري هي القمريات اليمنية التي اقتحمت الذوق العراقي قبل ما يقارب الثلاثة أعوام، لكنها ظلت حينها حكراً على البيوت الميسورة نظراً لارتفاع تكاليف عملها بوصفها تقليعة حديثة يمتهنها أفراد معدودون جداً، اكتسبوا الخبرة فيها أثناء عملهم في اليمن، ومنذ أقل من عام تقريباً شاعت محلات صنع القمريات في العراق على نحو ملفت للنظر، ساعد على كسر الاحتكار، وأفسح المجال أمام الكثير من الأسر المتوسطة).
ويشير العبادي إلى (أن الظرف الأمني العراقي لم يسمح للأهالي بتركيب القمريات في متون الجدران؛ لأنها ستصبح منفذاً سهلاً لاقتحام البيوت، فعمد العراقيون إلى جعل القمريات جزءاً من الجدران الداخلية للصالات والغرف، والبعض لا ينحتها على الجدار نفسه؛ بل يحضرها جاهزة، ويلصقها على الجدار بمادة (النورة، أو الجص). فأصبحت صناعة القمريات اليمنية إحدى الحرف المغرية التي يتهافت عليها الشباب، ومنهم من زار اليمن خصيصاً لنقل تصاميم حديثة منها، أو اكتساب المزيد من الخبرة).
وفي حين يلفت الكاتب نزار العبادي (أن مدينة الفاو بالبصرة كانت أول مدينة عراقية دخلتها القمريات عندما ساهم اليمنيون في حملة إعادة بنائها عام 1988م بعد الحرب العراقية – الإيرانية)؛ فإنه يرى (أن موجة الاغتراب العراقي في اليمن التي أعقبت حرب الخليج الثانية واستمرت إلى يومنا هذا، قد وضعت الذوق الفني العراقي محط التأثر بالثقافة التراثية اليمنية). مُعتبراً أن (أسباب قوة تأثر العراقيين بالموروث اليمني هي غزارة تراث اليمن وأصالته أولاً، ثم طبيعة الشعب اليمني الودود).