عطوان: كيف أفشّل الدهاء التفاوضي الفلسطيني مصيدة بايدن الرمضانية في القاهرة؟ ولماذا انسحب الوفد الفلسطيني بسرعة؟ وما هو الرهان السري الذي تعوّل عليه قيادة المقاومة في غزة في المرحلة المقبلة..!
أبين اليوم – مقالات وتحليلات
تحليل/ عبدالباري عطوان:
تقدم القيادة الفلسطينية في قطاع غزة بشقيها العسكري والسياسي درساً فريداً في فن التفاوض غير مسبوق في العالم العربي، عنوانه الرئيسي “نعم.. ولكن”، أما العناوين الفرعية فتتضمن التأني وعدم الاستعجال في الرد، والاعداد الجيد والشمولي للمطالب الرئيسية، وعدم الثقة مطلقاً بالوسطاء، والتعاطي معهم ليس كسعاة بريد فقط، وانما كمتواطئين مع الولايات المتحدة الأمريكية، وسياساتها المنحازة لدولة الاحتلال الإسرائيلي لأسباب ليس هنا مكان حصرها.
إدارة الرئيس بايدن تنظر إلى مفاوضات القاهرة التي جاءت إمتداداً لمفاوضات قادة أجهزة الاستخبارات في باريس، من زاوية الحفاظ على أمن الاحتلال، واخراجه من ورطته، وأزماته المتشعبة والمتفاقمة عسكريا وسياسيا واقتصادياً واستخبارياً، ومحاولة تقديم سلم يمكنه من النزول من قمة الشجرة العالية التي تسلقها بإرسال قواته لاقتحام قطاع غزة.
الرئيس جو بايدن لم يحمّل نتنياهو مسؤولية فشل المفاوضات عندما لم يرسل مبعوثاً عنه للمشاركة في مفاوضات القاهرة إحتجاجاً على عدم تقديم “حماس” وثيقة بأسماء الأسرى الأحياء، وانما وضع اللوم على المقاومة التي لم ترسل ردها، وهذا كان متوقعاً، ولكن قيادة المقاومة سحبت البساط من تحت قدميه عندما أرسلت رداً متكاملاً يتضمن مطالب مشروعة، أبرزها وقف شامل لإطلاق النار، وانسحاب من كل مناطق القطاع، وعودة جميع النازحين الى الشمال، والافراج عن 160 أسيراً على رأسهم الخمسة المبشرين بالجنة: مروان البرغوثي، واحمد سعدات، وعبد الله البرغوثي، وإبراهيم الحامد، وعبد الله السيد، علاوة على جميع النساء والمرضى والأطفال، وجميع معتقلي صفقة شاليط، وفتح جميع المعابر امام المساعدات.
انه الدهاء القيادي الفلسطيني في أبرز صوره، دهاء معجون بالصلابة والشجاعة، وعدم الرهبة من الإحتلال وقدراته القتالية العالية، والمعمد بالنفس الطويل، والاعتماد على الذات، والايمان المطلق بحتمية النصر في نهاية المطاف، والرهان على توسع الساحات، وتطورها عسكرياً وسياسياً واعلامياً.
مدرسة التفاوض هذه المدعومة بانتصارات على الأرض في الوقت نفسه، جديدة على الشعب الفلسطيني الذي تعود على قيادات قصيرة النفس، خانعة لإملاءات عربية، ومصدقة لأكذوبة الاعتدال، والمجتمع الدولي، وامتلاك أمريكا لـ 99 بالمئة من أوراق الحل، ومنهج التفاوض المفتوح والأبدي، مع العدو للحصول على فتات التنازلات الشكلية، وأبرزها قيام دولة وهمية على الورق وادمان السير فوق السجاد الأحمر، والاستمتاع بترف الطيران الى الأمم المتحدة والمشاركة في اجتماعات جمعيتها العامة السنوية، والقاء خطابات من وفوق منبرها استجداء للعطف والشفقة.
قيادة المقاومة في غزة قدمت ردها الى مفاوضات القاهرة، واعطت تعليمات لوفدها بأنه نهائي، وليس موضوع نقاش، او التنازل عن أي بند فيه، وطلبت منه، أي الوفد، الى المغادرة فوراً في حال عدم الأخذ بمضمونه، وهذا ما حدث.
مرعوبون من حلول شهر رمضان، شهر الفداء والتضحية فلسطينياً وعربياً، ويريدون اتفاقاً بالهدنة قبل حلوله، ويقوم الامريكان في الوقت نفسه بإرسال أكثر من مئة صفقة من الأسلحة الأمريكية الحديثة الى دولة الاحتلال سراً، لإنقاذها من الهزيمة وتعزيز إستعداد العودة الى القطاع بعد إنتهاء الشهر الفضيل، ومواصلة حرب الإبادة والتطهير العرقي بتصعيد أكبر، ويعتقدون في الوقت نفسه ان هذه الخدعة ستمر لأنهم يراهنون على الغباء العربي الرسمي المزمن، وتشابهت عليهم البقر العربية.
القيادة الفلسطينية في قطاع غزة تدير المعركة سياسياً وعسكرياً برؤية حاذقة، تنطلق من ايمان راسخ بأن إطالة أمد الحرب ليست من مصلحة “إسرائيل” التي تتفكك، ولا من مصلحة أمريكا التي تفقد هيبتها، وتخسر معظم مصالحها في الشرق الأوسط والعالم لصالح اعدائها في الصين وروسيا ومحور المقاومة.
نشرح أكثر ونقول إن الخسائر البشرية والعسكرية والمالية والمعنوية الإسرائيلية بلغت ذروتها، وبات الجيش غير قادر على حماية مستوطنيه ومنبوذاً من العالم بأسره، ويواجه حربين رئيسيين واحدة في الشمال (حزب الله)، وأخرى في الجنوب (القطاع)، أديا الى نزوح اكثر من 300 الف بحثاً عن الأمان في الوسط، ويرفضون العودة الى مستوطناتهم رعباً من تكرار معجزة “طوفان الأقصى”، ناهيك عن الهجرة المعاكسة وهروب أعداد كبيرة من المستوطنين الى بلادهم الأصلية، وكنت الأسبوع الماضي في موسكو، وقد لمست هذه الظاهرة بنفسي، وحصلت على معلومات من مصادر دقيقة تؤكد هذه الحقيقة التي تتكرر أيضا في دول أخرى مثل المانيا وبريطانيا والولايات المتحدة نفسها، والحبل على الجرار.
إدارة الحرب من قبل القيادة المبدعة في قطاع غزة سياسياً وعسكرياً، وبالاستعانة ببعض العقول الجبارة، وغير المخترقة عربياً في الخارج، والرهان على الصبر الاستراتيجي، والشارع العربي الوطني الشريف، والحلفاء الثقاة، هذه الإدارة ونظرتها البعيدة المدى بدأت تعطي ثمارها الطيبة، فها هي المقاومة الإسلامية العراقية تقصف حيفا والبنى التحتية الكهربائية في الشمال المحتل، وتصل صواريخها الى مستوطنة كريات شمونة، وقبلها الى جميع القواعد العسكرية الامريكية في العراق وسورية، وها هي صواريخ “حزب الله” غير الدقيقة (حتى الآن)، تحول المستوطنات والمواقع العسكرية الإسرائيلية في الجليل الى كتلة لهب، اما عن اليمن الشقيق وقواته البحرية التي باتت متخصصة في إذلال السفن الحربية الامريكية ولأول مرة في التاريخ منذ غزوة بيرل هاربر عام 1941 على ايدي “الكوميكاز” اليابانيين، فحدث ولا حرج.
لهذه الأسباب كلها، مجتمعة او متفرقة، تريد إدارة الرئيس بايدن “سلق” اتفاق سريع لوقف الحرب في غزة ينقذ دولة الاحتلال، خاصة بعد ان بدأت نيران الحريق تصل الى ذيلها الانتخابي، ولكنها لن تفلح في مسعاها “المسموم” الا بالرضوخ الكامل لشروط قيادة المقاومة في غزة، وهذا ما سيحصل في نهاية المطاف، طال الزمن او قصر.. والأيام بيننا.
المصدر: رأي اليوم