عطوان: لماذا نجزم بأن تفاقم الخلافات في المؤسسة السياسية الإسرائيلية وتصاعد الانسحابات من جبهات القتال في غزة أول بشائر النصر للمقاومة في غزة بعد المئوية الأولى؟ وما هي الأسباب الثلاثة التي غيرت الموازين والنتائج؟ وما هي الإنجازات الاستراتيجية التي بدأت تتحقق تدريجياً في ساحة اليمن..!
أبين اليوم – مقالات وتحليلات
تحليل/ عبد الباري عطوان:
ان ينقلب ثلاثة من أبرز الوزراء في حكومة بنيامين نتنياهو على رئيسهم، ويشارك اثنان منهم في مظاهرات إحتجاجية تطالب بإسقاطه، في ذكرى مرور 100 يوم على بداية حرب غزة، فهذه ليست دلائل إنتصار وانما مؤشرات هزيمة مؤكدة، فالمنتصرون في الحروب يحتفلون، ولا يختلفون، ويتمردون على رئيسهم.
نشرح أكثر ونقول ان بيني غانتس، وغادي ايزنكوت، الوزيران في حكومة الحرب، خرجا من آخر اجتماعاتها اليوم غاضبين، وذهبا فوراً الى مظاهرة يرفع المشاركون فيها لافتات تؤكد على فشل الحكومة في إستعادة الأسرى، ويرددون شعارات تطالب بإسقاط نتنياهو الذي فشل في حماية مستوطنيه، وتحقيق الأمن والاستقرار لهم، وتقديم مصالحه الشخصية على جميع الاستحقاقات.
التفكك في حكومة نتنياهو بلغ ذروته عندما خرج الجنرال يوآف غالانت وزير الحرب في اجتماع طارئ لحكومة الحرب غاضباً بعد أقل من ساعة من انعقاده، وبعد تلاسن حاد مع رئيسه نتنياهو، ومن غير المستبعد أن تكون هذه الانسحابات مقدمة لانضمام وزراء آخرين، وبما يؤدي إلى إنهيار كامل للحكومة.
قلنا في هذا المكان، ومنذ اليوم الأول من بدء الحرب البرية، انه كلما امتد أمد الحرب، كلما تفاقمت الهزائم الإسرائيلية، وتعاظمت انتصارات رجال المقاومة الذين امتصوا الصدمة، وكثفوا هجماتهم على القوات الإسرائيلية الغازية، وأفشلوا جميع خططها، وكسروا أنف غرورها.
الأنباء التي تواترت طوال الأربعة والعشرين ساعة الماضية عن انسحابات قوات الاحتلال من مدن ومعسكرات وسط القطاع، ومن شرق كل من دير البلح وخان يونس، وقبلها الشجاعية (قوات جولاني)، تؤكد ضخامة حجم الخسائر البشرية، وتصاعد أعداد العربات والدبابات المدمرة، فهذا ليس انسحاباً بقدر ما هو هروب من المواجهة، واعترافاً عملياً بعدم القدرة على الإستمرار فيها.
ربما يكون من الخطأ النظر الى الأمور من زاوية الربح والخسارة أثناء التعاطي مع هذه الحرب وتطوراتها، فنحن لسنا أمام صفقة تجارية، وانما أمام حرب تحرير بين طرف قوي متغطرس يحظى بدعم علني من قوى عظمى مثل الولايات المتحدة، ومقاومة صلبة سلاحها الأقوى هو الإدارة والايمان، والقتال حتى الشهادة، ولكن اذا نظرنا الى النتائج على الأقل، فان هذا الصمود المصحوب بقتال شرس على كل الجبهات، ونقل الحرب الى قلب الأرض الفلسطينية المحتلة، وتدمير أسطورة الردع عند العدو التي ارهبت جيوشاً عربية جرى انفاق مئات المليارات على تسليحها وتدريبها، هذا الصمود ونتائجه الأولية، جاء بمثابة اعلان لبدء انهيار المشروع الصهيوني الاحتلالي العنصري، وربما الهيمنة الغربية على الشرق الاوسط أيضاً.
صحيح ان الشعب الفلسطيني فقد أكثر من 24 الف شهيد، و66 الف جريح، وتشريد مليونين من أبنائه في القطاع، وتدمير حوالي 86 بالمئة من منازلهم، وهذه أرقام مرعبة، ولكن الصحيح أيضا أن خسائر العدو لهيبته وردعه، وأكثر من 1700 من جنوده قتلى، وعشرات الالاف من الجرحى، وتشريد أكثر من نصف مليون مستوطن سواء من مستوطنات شمال فلسطين، او من جنوبها، بفعل عمليات المقاومة، تظل كلها إنجازات ضخمة وغير متوقعة، فالعدو لم يتعود على الخسائر، وخوض الحرب في “ارضه” طوال الـ 75 عاماً الماضية، وانما تعود على مواجهات “سهلة” مع جيوش عربية مهزومة، ومتكرشة، وبنيت في الأساس من اجل الفساد، والعمولات، والمشاركة في الاستعراضات العسكرية المضللة.
دولة الإحتلال وضعت كل ثقلها وامكانياتها العسكرية على أمل حسم هذه الحرب بسرعة لمصلحتها، وتحقيق جميع الأهداف، وابرزها القضاء على المقاومة لطمئنة مستوطنيها المرعوبين، وإستعادة جميع الأسرى، ووجدوا دعماً مباشراً من الولايات المتحدة مالياً وبشرياً ومعداتياً، ولكنهم وبعد 100 يوم لم يحققوا أي من هذه الأهداف رغم حرب الإبادة والتطهير العرقي التي شنوها، ودخلت هذه الحرب التاريخ كأطول حرب تشنها دولة الاحتلال منذ اغتصابها فلسطين.
نقطة التحول الرئيسية في هذه الحرب تتمثل في ثلاثة أمور:
الأول: وجود قيادة فلسطينية شجاعة ومؤمنة لا تخاف من العدو ولا من داعميه، وقادرة دون تردد على إتخاذ قرار الحرب والاستعداد لكل تبعاتها.
الثاني: وجود حاضنة شعبية داعمة ومؤمنة لها.
الثالث: الإنتماء الى محور مقاومة يتمتع بنفَس طويل، وخاصة في اليمن والعراق وجنوب لبنان.
جميع الشعوب التي حاربت الاستعمار، وقاومت احتلاله بشجاعة، وفرضت عليها الحروب، تكبدت خسائر كبيرة، فكلما تضخم حجم الهدف السامي تعاظمت أخطاره وخسائره، فالفيتناميون قدموا ملايين الضحايا، ورواندا الافريقية الصغيرة خسرت مليونين من أبنائها في حرب أهلية قبلية، وباتت الآن من نمور افريقيا، اما العراق الشقيق فما زال يعاني من اعراض عدوان امريكي كلفه مليوني شهيد، والشيء نفسه يقال أيضا عن الشعب الافغاني، والشعب الفلسطيني لم يختر قدره وكتب عليه القتال.
الأشقاء في اليمن جرّوا أمريكا الى مصيدة حرب استنزاف عسكرية واقتصادية واستراتيجية، واحدثوا انقساماً تاريخياً في المعسكر الغربي، فمعظم الدول الأوروبية رفضت المشاركة في الحلف الأمريكي الاستعماري في البحر الأحمر، والشيء نفسه يقال عن حلفاء عرب وأفارقه في الدول المشاطئة له، ولعل الانتصارات التي يحققها الجيش الروسي في حرب أوكرانيا “المنسية” هذه الأيام يفرض على الرئيس فلاديمير بوتين ان يرد الجميل للعرب وللمقاومة الفلسطينية “الحمساوية” بدعمها والوقوف في صفها لأنها تقاتل وتضحي من أجل قضية عادلة، لكن هذا لم يحدث للأسف، نقولها وفي الفم مرارة، ويجسد هذا النكوص في عدم استخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي للتمهيد للعدوان الأمريكي في اليمن الشقيق أصل العرب.
طالما يستمر إطلاق الصواريخ من قطاع غزة لضرب تل أبيب، وتتعاظم الخسائر البشرية والعسكرية الإسرائيلية يوماً بعد يوم، وتفشل كل الجهود الأمريكية والإسرائيلية في الوصول الى قيادة المقاومة وغرفة عملياتها، ومصانعها تحت الأرض، ويفشل مشروع التهجير حتى الآن، فان بشائر النصر باتت مؤكدة ومكتوبة على الحائط.. والأيام بيننا.
المصدر: رأي اليوم