وصْفَة صندوق النقد: رحلة الصومال من الثراء إلى نادي فقراء العالم.. “تقرير“..!

5٬843

أبين اليوم – تقرير إقتصادي 

مُدن ناشئة، وبنية تحتية قوية، وبيئة أعمال نشطة، ومزارعٍ مُخْضَرَّة، خصيبةُ الزرع والضرع، وشريط ساحلي هو الأطول في حدود دول المنطقة، والأوفر عطاء باللؤلؤ والأحياء البحرية، واقتصاد رعوي وفير الموارد، يكفي الداخل ويصدر للخارج، كيف لا.. وقرابة 50% من السكان كانوا يعملون في تربية الثروة الحيوانية التي كانت تشكل 80% من إجمالي صادرات البلاد في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وما قبله.

هكذا كانت الصومال، بعد استقلالها من الإستعمار البريطاني والإيطالي في عام ١٩٦٠م، فما الذي حل بها حتى أصبح 6.6 مليون شخص من سكانها يحتاجون إلى المساعدة العاجلة؟ وكيف شرَّد إنعدام الغذاء الملايين من أبناء شعب الصومال تحت ضغط مجاعة هي الأسوأ في العالم؟ وما دور صندوق النقد الدولي في هذا الإنهيار الدراماتيكي الرهيب الذي حدث بين ١٩٨٠ و١٩٩٠م؟.. ولماذا الصومال بالذات؟ إلى تفاصيل قصة إغتيال الصومال اقتصادياً.

ما بعد الإستقلال:

بعد استقلاله، وخلال عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، كان شعب الصومال مكتفياً ذاتياً باعتماده على الاقتصاد الرعوي القائم على الزراعة والرعي، غير أن الإستعمار وقبل مغادرته البلاد كان قد وضع حكومة الإستقلال في مواجهة حروب مفتوحة مع جيرانها، عبر اجتزائه مساحات شاسعة من أراضي الصومال وضمها إلى كينيا وأثيوبيا.

تلك الحروب فرضت على الحكومات زيادة جبرية في الإنفاق العسكري، ما أثر بسلبية كبيرة على النمو الاقتصادي، وظل التذبذب بين النمو الطفيف والتراجع القاسي، هو السمة الاقتصادية الغالبة خلال عقد السبعينيات، غير أن ما شهدته البلاد- بالتزامن مع ذلك التذبذب- من موجات جفاف وتغيرات مناخية لم تؤثر على مخزون البلد من الغذاء بفضل دعم الحكومة- ذات التوجه الاشتراكي- لصغار الفلاحين ورعاة المواشي، واهتمامها بقطاع الأدوية البيطرية، والأسمدة الزراعية، وقطاع التسويق والتصدير.

وفي عام ١٩٧٩م، أعلنت الحكومة الصومالية توقف اقتصاد البلاد عن النمو، بالمقارنة مع عام 1978م، وعانى ميزان المدفوعات (مجموعة المعاملات المالية التي يقوم بها الصومال على المستوى الدولي) عجزاً قياسياً في ١٩٧٩م بلغت قيمته ٩٩ مليون دولار مقارنة بتحقيقه فائضاً في ١٩٧٨م، ما يعني أن البلاد أصبحت على طريق التحول من منتج إلى صافي مستهلك، وأنها أصبحت تستورد سلعاً وخدمات أكثر مما تصدر، وبالتالي يجب عليها أن تقترض الأموال من الدول الأخرى لتوفير وارداتها.

الأهم في هذه التراجيديا الاقتصادية أن الحروب وموجات الجفاف الناجمة عن التغيرات المناخية، لم تكن أسباباً جوهرية لما حل بالصومال من كارثة، كما تروج وسائل الإعلام الغربية، فرغم ما سبق حققت الصومال معدلات نمو اقتصادية لا بأس بها حتى 1979م، وبدأت مؤشرات التدهور بالتصاعد، فتزايدت- تبعاً لذلك- التحذيرات الأممية من خطر مجاعة تهدد الصومال هي الأسوأ في العالم.

الطب الاقتصادي الدولي:

تلك المؤشرات والتحذيرات الأممية، ظلت تدفع بالبلدان النامية إلى أحضان صندوق النقد والبنك الدوليين، اللذين بدورهما أغرقا تلك الدول بالديون التي تحولت إلى قيود كبَّلت جهودها للخروج من أزماتها، وذلك ما حدث للصومال التي دخلت غرفة الإنعاش الدولية، لكن اقتصادها ما زال حتى اليوم في حالة موت سريري.

لا مبالغة في ذلك، ففي كتابه “عولمة الفقر” الصادر في عام 2012م، يقول الخبير الاقتصادي الكندي “ميشيل تشوسودوڤسكي”: “لا يمكن بأي حال من الأحوال، أن يتجاهل أي عاقل تأثير 10 سنوات قضتها الصومال بين أيدي طبيبها المزعوم (صندوق النقد) تم خلالها إرساء كل الظروف اللازمة لانتقال البلاد نحو التفكك الاقتصادي والفوضى الاجتماعية”.

السؤال الأهم هنا، وبعد دخول البلاد دوامات الاقتراض من صندوق النقد الدولي، كيف دمّرت سياسات الصندوق كل مقومات اقتصادها الرعوي؟ وكيف صوبت رصاصاتها القاتلة إلى صغار المزارعين، ورعاة الماشية والأغنام، الذين كانوا يشكلون أهم قوائم الاقتصاد الصومالي؟

غرق الصومال: تعويم العملة:

في فبراير ١٩٨٠ بدأت الصومال رحلتها مع صندوق النقد الدولي الذي نفذ معها ما يصفه الخبراء بالطب الاقتصادي؛ من خلال تشجيعها على إتباع روشتات برامج التكيُّف الهيكلي، والتي تركز في بداية تنفيذ خارطة عملها التدميرية على إستهداف العملة المحلية لصالح تسيُّد الدولار، فدخلت الصومال- تبعاً لذلك- غرفة إنعاش صندوق النقد الدولي، بهدف معالجة ما تعانيه حكومتها من عجز اقتصادي ومالي وإداري، رغم ما تملكه من أصول ومقومات اقتصادية رعوية.

كانت أولى روشتات الصندوق في يونيو ١٩٨١ عندما أشار خبراؤه على الحكومة الصومالية- حينها- بأن تقر رسمياً خفض قيمة عملتها “الشلن”، فخفضت قيمة عملتها أمام الدولار، بنسبة ٥٠% على أساس أن هذا التخفيض سيدعم الصادرات وسيجعل السلع الصومالية أقل كلفة، وأكثر جاذبية بالنسبة للمستوردين الأجانب، ولكن ذلك الخفض لم يكن كافياً بحسب خبراء الصندوق، وأن عليها المبادرة أكثر، فقامت بخفض جديد لقيمة عملتها “الشلن” في يونيو ١٩٨٢ لكن ذلك لم يجدِ، فكلما جرى الخفض للعملة انهارت القيمة النقدية لمدخرات الناس وتراجعت قدرتهم الشرائية.

وفي ١٩٨٣ وبناء على رؤية برامج الصندوق الموصولة بمساعدة الحكومة على معالجة عجزها، قررت حكومة الصومال تعويم عملتها عبر ربطها بما يسمى “حقوق السحب الخاصة”، أي إخضاع تحديد قيمة العملة المحلية أمام الدولار، لحركة العرض والطلب في سوق الصرافة على سلة خمس عملات رئيسية يتصدرها الدولار.

انهيار الإنتاج الغذائي:

السياسات التي فرضها الصندوق على الحكومة الصومالية، من الخفض التدريجي لقيمة عملة البلاد “الشلن” وصولاً لتعويمها، وما تلى ذلك من توقف الدعم الحكومي لصغار المزارعين ومربي الثروة الحيوانية، كل ذلك أدى إلى ارتفاع صاروخي في أسعار الوقود والأسمدة وكل مدخلات الإنتاج الزراعي، فعجز المزارعون عن مواصلة أنشطتهم، ما انعكس على مستويات إنتاج الغذاء إلى أدنى المستويات.

الأسوأ ليس في ذلك التراجع الإنتاجي، بل تمثل في قرار الحكومة-التي أصبحت تتحرك بإشارات اقتصادية من طرف صندوق النقد الدولي- في تحرير أسعار الحبوب وربطه بحركة العرض والطلب، لتحرم شريحة واسعة من الفقراء الذين تهالكت مدخراتهم وقدراتهم الشرائية في رحى حرب الصندوق الصامتة على العملة، وأصبح الملايين من السكان عرضة للمجاعة.

ولأن الصندوق يعتمد دوماً سياسة القروض (متدرجة الفوائد) في استهدافه اقتصادات ومقدرات الدول النامية- وفق الخبير الاقتصادي الدولي جون بيركنز مؤلف كتاب “الاغتيال الاقتصادي للأمم”- فقد أثقل الحكومة الصومالية بالديون حتى باتت عاجزة عن السداد، فاتجه لدفعها نحو إجراءات قاسية لخفض الإنفاق الحكومي.

وفيما تمثل أسوأ تلك الإجراءات في إلغاء برامج الدعم الحكومي التي كانت تشجع صغار المزارعين، كان الأكثر سوءاً تشجيع الصندوق للحكومة على توجيه المزارعين للتخلي عن زراعة المحاصيل- التي أسماها الصندوق تقليدية للتقليل من شأنها- كالأرز والحبوب، أهم المنتجات المحلية التي أصبح ثمن إنتاجها باهظاً، مقابل انخفاض الحبوب الأمريكية التي تغرق السوق وبكلفة إنتاجية أقل، بفعل دعم الحكومة الأمريكية للمزارعين.

وفي الوقت نفسه، عمد الصندوق إلى تشجيع الحكومة على الدفع بالمزارعين إلى زراعة المحاصيل التي أطلق عليها “ذات القيمة المضافة العالية” (النقدية) كالفواكه والخضروات والبذور الزيتية والقطن، كونها قابلة للتصدير والحصول على العملة الصعبة لسداد الديون، وشراء الحبوب من الخارج.

بالتوازي مع تراجع الاقتصاد الزراعي انهار الاقتصاد الحيواني، بسبب ارتفاع أسعار الأدوية البيطرية، بالتزامن مع إيقاف الحكومة دعمها البيطري لمربيِّ الحيوانات، تنفيذاً لروشتات الصندوق، ومن ثم وصلت إلى خصخصة الخدمات البيطرية، فأصبح الطب البيطري للحيوانات بما في ذلك برامج التحصين برسومٍ ارتفعت تدريجياً إلى مستويات عجز عن دفعها المربون، وبذلك تكون الحكومة الصومالية قد تخلت عن مسؤوليتها في دعم أهم قطاعات الاقتصاد كقطاعي الزراعة والثروة الحيوانية.

تلك الإجراءات أفضت إلى نتائج كارثية أبرزها إفقار المجتمعات الزراعية ومجتمعات الرعي، وتدمير البنية التحتية الزراعية، من الحقول والآبار وشبكات وقنوات الري، ومنشآت وشركات الطب البيطري وبيئة الأعمال المرتبطة بالزراعة والري وسلاسل الإمداد المترافقة مع إنتاج وتسويق وتصدير المنتجات الزراعية والحيوانية، فأصبح المزارع والمربي والموظف والعامل في الخدمات والأعمال المرتبطة بالقطاعين الزراعي والرعوي، على رصيف الفقر إلى جانب الملايين، ليعتمد الجميع على المعونات.

تفكك الجهاز الإداري: أزمة الأجور:

في 1989م أصبحت القيمة الحقيقية لأجور موظفي القطاع العام أقل بنسبة 90% مقارنة بما كانت عليه في منتصف السبعينيات، ووصل متوسط الأجر إلى 3 دولارات شهرياً، لينضم الموظفون إلى صف الشرائح المسحوقة، واستتباعاً لمآلات السقوط الحر لمتوسط الأجور الشهرية، تفكك الجهاز الإداري للدولة، وفق ما أكده الخبير الاقتصادي أشرف إبراهيم.

عند هذه النتيجة، لم تكتفِ المنظومة المالية الدولية بما فعله صندوق النقد الدولي، فتدخل البنك الدولي مقترحاً خطة لاستعادة أجور الخدمة المدنية، ليس بتحسين رواتب الموظفين عبر مصادر تمويلية من المنح والمساعدات أو حتى من القروض، إنما اقترح تمويل خطته من الموارد المالية نفسها، أي مما تبقى من مخصصات الأجور الموزعة على شريحة واسعة من موظفي وعاملي القطاع العام، فاقترح فصل أكثر من 40% منهم، وإلغاء علاوات الرواتب، وتخفيض موظفي الخدمة المدنية إلى 25 ألف موظف، بموجب مقترح البنك الدولي، وفق ما أكده الخبير الاقتصادي أشرف إبراهيم.

بعد عشر سنوات من عمل الحكومة الصومالية بالروشتات الصادرة عن برامج صندوق النقد الدولي، وصل حال إيراداتها إلى أسوأ وضع في التاريخ السياسي والاقتصادي للبلاد، حيث أصبحت الحكومة هي الأخرى تعتمد على بيع المساعدات الغذائية لتوفِّر تمويلاً لمشاريعها أو لسداد ديونها التي صارت تعادل في 1989 قرابة 195% من قيمة صادراتها، وفي 1991 دخلت البلاد في حرب أهلية كانت الضربة القاضية لاقتصاد الصومال ليشهد عام 1992 وفاة 350 ألف صومالي بسبب الجوع والفقر والمرض، وصار70% من سكانها يعيشون تحت خط الفقر.

نتائج خفض الإنفاق الحكومي:

كانت توصيات الصندوق مقنعة، فتقليص الإنفاق أمر مغرٍ جداً، لحكومة تعاني الديون والالتزامات التشغيلية، فمضت مطواعةً خلف ملاحظات وتصورات الصندوق، لتقود البلاد- في نهاية المطاف- إلى مربع اللاعودة، حيث صار الإنفاق الحكومي على الصحة في 1989 أقل بنسبة 78% مما كان عليه في 1975م، وفيما كانت الحكومة تنفق 82 دولاراً سنوياً على كل طالب في المرحلة الابتدائية في عام 1982م، أصبحت تنفق 4 دولارات فقط على الطالب في 1989م، ونظراً لذلك تراجع معدل التحاق الطلاب بالمدارس في سنة 1989م بنسبة 41% مقارنة بما كان عليه 1981م، وبهذه النتائج الكارثية، لم يقضِ الصندوق على ماضي الصومال الاقتصادي الرعوي الوفير وحاضرها المنهك فحسب، بل قضى على مستقبلها.

لماذا يستمر الفقر في الصومال؟:

تشير التقارير الدولية، إلى أن الصومال تتمتع بكم هائل من احتياطي الغاز الطبيعي والنفط، إضافة إلى ذلك تمتلك البلاد ثروة طائلة من المواد المعدنية، حيث قدر خبراء الصناعة الودائع بأكثر من 25% من احتياطيات اليورانيوم المعروفة في العالم، والتي بلغت 800 ألف طن، بالإضافة إلى خام الحديد والقصدير والنحاس والملح، غير أنه اليوم يصنف كأحد أفقر البلدان في العالم، بفعل تدخلات وبرامج صندوق النقد الدولي.

قائمة المصادر:

– “الاغتيال الاقتصادي”، جون بيركنز 2012م
– المخبر الاقتصادي، قناة +AJ على يوتيوب
– منصة أرقام
– وكالة بلومبرج
– الميادين نت
– الجزيرة نت

 

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com