عطوان: خطّة التدخّل العسكري في النيجر جرى اعتِمادُها والتنفيذ في انتظار الضّوء الأخضر الأمريكي والفرنسي.. لماذا عارضت الجزائر هذا التدخّل الانتِقائي؟ وهل سيتكرّر السّيناريو الليبي حرفيًّا؟ وكيف ستكون النّتائج..!
أبين اليوم – مقالات وتحليلات
بقلم/ عبد الباري عطوان
بعد أن تمّ وضع وزراء الدفاع في منظومة دول غرب إفريقيا (إيكواس) خطّة عسكريّة للتدخّل في النيجر إذا لم يُعِد قادة الانقِلاب فيها السّلطة إلى الرئيس المُنتخب محمد بازوم يوم الأحد، باتت القارة الإفريقيّة أمام أزمة سياسيّة طاحنة قد تتطوّر إلى حربٍ دمويّة، وانقسامٍ خطير يُهدّد أمنَها واستِقرارها ووحدتها قبيل أُسبوعين تقريبًا من انعِقاد قمّة “بريكس” في كيب تاون في جنوب إفريقيا.
فرنسا التي تدعم الحلّ العسكريّ في النيجر وتُحرّض عليه، قد تُكرّر السّيناريو الليبي الدموي، وتقود غزوًا إفريقيًّا هذه المرّة للإطاحة بالمجلس العسكريّ الانقِلابيّ فيها، تحت ذريعة عودة الرئيس الدستوري المُنتخب، ولكنّ هُناك شُكوك كبيرة بفرض نجاح هذا السّيناريو، لأنّ الانقِلاب العسكريّ في النيجر، كما يقول قائده الجِنرال عبد الرحمن تياني ليس ضدّ الديمقراطيّة، وإنّما الهيمنة الاستعماريّة الفرنسيّة وسرقتها لثروات البِلاد وحِرمان شعبها منها، وخاصّةً اليورانيوم والذّهب والفوسفات، حيثُ تُعتَبر النيجر واحدة من أكثر ستّ دُولٍ إفريقية فقرًا وفسادًا.
صحيح أنّ فرنسا تملك 1500 جُندي على الأرض النيجريّة مدعومين بطائراتٍ حربيّةٍ ومُسيّرات، ولكن هذا الوجود لا يُشكّل ضمانةً لنجاحه في إفشال الانقلاب العسكريّ بسبب الدّعم والتّأييد الذي يحظى به من نُظرائه في مالي وبوركينا فاسو حيث أعلن هؤلاء أن أيّ تدخّلٍ في النيجر سيأتي بمثابة إعلان حرب على البلدين، وسيتصدّى جيشهما له بكُل ما يملكانه من قوّة، واتّخذ قادة البلدين قرارًا بوقف صادرات اليورانيوم لفرنسا.
تنفيذ خطّة التدخّل العسكريّ لقوّات منظومة “إيكواس” (15 دولة) في النيجر بات في انتظار اعتماده من قبل قادة دُولها، وإعطاء كُل من أمريكا وفرنسا الضّوء الأخضر للبدء، وعلينا أن نتوقّع تدفّق القوّات، وقصف الطّائرات في أيّ لحظةٍ في الأيّام القليلة القادمة، ولا نستبعد أن تكون المُوافقة الأمريكيّة الفرنسيّة على التدخّل الفوريّ قد صدرت فعلًا، وأن جِنرالات البلدين (فرنسا وأمريكا) شاركوا بدورٍ كبير في وضع الخطّة العسكريّة المذكورة آنفًا، وتفاصيلها، ووزّعوا الأدوار على رُؤساء الجُيوش المُتورّطة في هذا التدخّل وعلى رأسِها الجيش النيجري المُوالي لأمريكا وفرنسا.
قوّات منظومة “إيكواس” تدخّلت في ليبيريا، وسيراليون، وغينيا بيساو، وساحل العاج، ومالي وغامبيا ضدّ انقِلابات وحالات تمرّد عسكريّة في التّسعينات من القرن الماضي وأوائل القرن الحالي، وكان آخِر تدخّلٍ لها في مالي إلى جانب القوّات الفرنسيّة عام 2017، ولكنّها لم تتدخّل مُطلقًا في انقلاباتٍ عسكريّةٍ مُماثلةٍ، في السودان على سبيل المِثال، لسببٍ بسيط أن هذا الانقِلاب السوداني للإطاحة بنظام الرئيس عمر البشير كان يحظى بدَعمِ الولايات المتحدة ودولة الاحتِلال الإسرائيلي، وها هو السّحر الأسود ينقلب على أصحابِه.
نحن أمام حرب نُفوذ شرسة بين الغرب بزعامة أمريكا من ناحية والتّحالف الصيني الروسي من ناحيةٍ أُخرى، ويبدو أن القمّة الإفريقيّة- الروسيّة التي انعقدت في سان بطرسبرغ في 27 من الشهر الماضي، وشارك فيها رؤساء ومُمثّلو 53 دولة إفريقيّة قد حسمت هذه الحرب لمصلحة المحور المُناهض للغرب، أيّ الصيني الروسي، وهذا ما يُفسّر التّحشيد العسكري الحالي لوَأدِ الانقلاب العسكريّ في النيجر المدعوم بشَكلٍ غير مُباشرٍ من روسيا وقوّات مجموعة فاغنر رغم نفي الطّرفين.
لا تُوجد أيّ مُؤشّرات في الوقت الرّاهن تُؤكّد استِعداد المجلس العسكريّ في النيجر لإعادة السّلطة إلى الرئيس محمد بازوم المُنتخب، كما أن الوساطات التي سعت لحلٍّ سياسيٍّ دبلوماسيٍّ للأزمة فشلت في تحقيقِ أيّ تقدّمٍ، ولهذا فإنّ حربًا أهليّةً إفريقيّةً بالإنابة بين القِوى العُظمى المُتصارعة على النّفوذ في القارّة السّمراء على أرض النيجر ومُحيطها باتت غير مُستَبعدة، إن لم تكن وشيكةً جدًّا.
المُشكلة أنّ الدول الغربيّة بقِيادة الولايات المتحدة لم تتعلّم من هزائمها السّابقة التي جاءت نتيجة تدخّلاتها العسكريّة في كُل من أفغانستان والعِراق وليبيا، وما زالت تُمارس الأساليب نفسها في الهيمنة وحلب ثروات الشّعوب في إفريقيا والشّرق الأوسط تحت ذرائع مُتعدّدة للتدخّل العسكريّ، تارةً بدعم الديكتاتوريّة المُوالية (السودان)، وأُخرى بمُعارضتها والانحِياز للديمقراطيّة مثلما حدث ويحدث في ليبيا، والعِراق، وسوريا، والآن في النيجر.
التحالف الروسي الصيني كسب فيما يبدو حرب النّفوذ في القارّة الإفريقيّة، ومُعظم الشّرق الأوسط، بدعمه مشاريع التّنمية وتقديم القُروض، والمُساعدات الماليّة، وتوطين التّكنولوجيا، والمنح التعليميّة، وأحد الأدلّة البارزة في هذا الميدان إعفاء، أو تسهيل، روسيا بوتين لأكثر من 90 بالمِئة دُيون الدّول الإفريقيّة التي شاركت في قمّة سان بطرسبرغ، وإعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تزويد ستّ دُول إفريقيّة فقيرة بالحُبوب مجّانًا، وبأسعارٍ مُخفّضةٍ لضِعف هذه الدّول، وهذا ما يُفسّر رفع بعض المُؤيّدين لانقِلاب النيجر للعلم الروسي وصُور الرئيس بوتين.
جنوب إفريقيا الدّولة الإقليميّة العُظمى التي ستستضيف قمّة “البريكس” أواخِر هذا الشّهر اتّخذت موقفًا أقرب إلى الحِياد، أمّا الجزائر القُوّة الإقليميّة الكُبرى الأُخرى وصاحبة النّفوذ القويّ في الاتّحاد الإفريقي فجاهرت بمُعارضتها لأيّ تدخّلٍ عسكريٍّ في النيجر، وأكّد رئيسها عبد المجيد تبون في الوقت نفسه اليوم تأييده لعودة الشرعيّة، ولكنّ مُعارضة التدخّل العسكريّ، هو الموقف الأهم في نظرنا.
الأيّام القليلة القادمة ستكون حاسمة حربًا أو سِلمًا، ومن الصّعب ترجيح كفّة أحد الخِيارين، والأمر المُؤكّد أنّنا أمام انقِسامٍ حادٍّ في القارّة الإفريقيّة غير مسبوق، وقد يستمرّ لسنواتٍ، وربّما لعُقودٍ قادمةٍ في ظلّ حالة التوتّر الحاليّة.
تدخّل حِلف النّاتو في ليبيا بزعامة فرنسا ربّما أطاح بنِظام العقيد معمّر القذافي، ولكنّه لم يُقدّم للشّعب الليبي إلّا الفوضى الدمويّة ونهب عشَرات المِليارات من الدّولارات الليبيّة، ومن المُستَبعد أن يُؤدّي أيّ تدخّل فرنسي أمريكي جديد في النيجر ومِنطقة السّاحل بنتائجٍ أفضل على الإطلاق، لأنّ الحرب الفرنسيّة في مالي انتهت بالهزيمة، وانقِلابُ النيجر الذي حظي بدعمٍ لا بأس به من الفُقراء والمَسحوقين فيها، ربّما يكون قد أسدل السّتار بشَكلٍ نهائيٍّ على النّفوذ الاستِعماري الفرنسي والأمريكي في القارّة الإفريقيّة التي تغيّرت مُعادلات القوّة والمصالح فيها في السّنوات الأخيرة في غيرِ صالحِ الغرب.. والأيّام بيننا.
المصدر: رأي اليوم