عطوان: إلى بلينكن.. رَسولُ التطبيع المسموم بين السعوديّة و”إسرائيل”.. بِضاعتكم فاسدة ومُنتهية الصلاحيّة.. وزمان نُفوذكم وغطرستكم يَلفُظُ أنفاسه إلى غيرِ رجعةٍ..!
أبين اليوم – مقالات وتحليلات
بقلم/ عبد الباري عطوان
لا نعرف من الذي نَصّب أنتوني بلينكن وزير الخارجيّة الأمريكي “رَسُولًا” للتّطبيع بين المملكة العربيّة السعوديّة ودولة الاحتِلال الإسرائيلي، وهو الذي فشل فشلًا ذريعًا في تطبيع عُلاقات بلاده معها، أيّ المملكة، فقد كان الأولى به، وإدارته، إجراء مُراجعة للسّياسة الأمريكيّة وحُروبها الدّموية الفاشلة في المِنطقة التي أدّت إلى تدهور العُلاقات ليس مع المملكة فقط، وإنّما مع مُعظم دول الشّرق الأوسط، ومُحاولة الاستِفادة من نتائج هذه المُراجعة لإجراء إصلاحات وترميمات جذريّة، هذا إذا لم يَفُت الوقت، وجرى إغلاق أبواب العودة كُلّيًّا.
نُورد هذه المُقدّمة تعليقًا على ما كشفه إعلام إسرائيلي عن تفاصيل المُكالمة الهاتفيّة التي أجراها بلينكن يوم أمس الأربعاء مع نظيره الإسرائيلي إيلي كوهين، وقال فيها “إن الأمر باتَ أصعب كثيرًا، بل ربّما باتَ مُستحيلًا بالنّسبة إلى واشنطن على صعيد تعزيز اتّفاقات التّطبيع وتوسيعها بحيث تشمل السعوديّة بينما السّاحة الخلفيّة لإسرائيل مُشتعلة”، في إشارةٍ إلى اعتِداءات المُستوطنين الإرهابيّة على قُرى فِلسطينيّة، وحرق منازل أصحابها.
قيام وزير الخارجيّة بمساعي التّطبيع الإسرائيلي السعودي، وفي هذا التّوقيت بالذّات، يعكس غباء هذا الرّجل، وعدم معرفته لألف باء التّغييرات المُتسارعة في المملكة العربيّة السعوديّة ومِنطقة الشّرق الأوسط، بل والعالم بأسْره، مثلما يعكس أيضًا حالة الانهِيار الدّاخلي الذي تعيشه دولة الاحتِلال هذه الأيّام، ونُركّز هُنا على تعاظُم عمليّات المُقاومة الفِلسطينيّة، وتطوّر أدواتها القِتاليّة، والالتِفاف الشّعبيّ الدّاعم لها، وانهِيار سُلطة رام الله ومشروعها الاستِسلامي في المُقابل.
هذا الهوس الأمريكي بتطبيع العلاقات السعوديّة الإسرائيليّة مُجرّد أضغاث أحلام، ولا يُوجد له أيّ أساس إلّا في ذهنيّة بلينكن وأمثاله من أصدقاء دولة الاحتِلال، والسّاعين إلى إنقاذها من أزماتها والتّهديدات الوجوديّة الحقيقيّة التي تُهدّدها، ولعلّ باربرا ليف مُساعدة بلينكن لشُؤون الشّرق الأوسط التي قالت في شهادتها أمام الكونغرس بأنّ “هُناك تقارير خاطئة، وتداولًا مُفْرِطًا في الصّحافة الإسرائيليّة بشأن التّطبيع السعودي الإسرائيلي المُحتمل”، أكثر حكمةً ودرايةً من رئيسها، ولو كُنت رئيسًا للإدارة الأمريكيّة الحاليّة لعيّنتها مكانه، ولكنّها لن تتعيّن لأنّها ليست صهُيونيّةً بالقدرِ الكافي.
بلينكن يُريد “تجميل” الاحتِلال وتلطيفه، عندما يقول مُواربةً بأنّ وقف هجمات المُستوطنين المُتطرّفين القتلة على القُرى العربيّة، وحرقها، هي العقبة الرئيسيّة في طريق التّطبيع، ولا يستطيع أن يرى أن الثّورة الفِلسطينيّة المُسلّحة الحاليّة تأتي من أجل إنهاء الاحتِلال، واجتِثاثه كُلّيًّا، وإن من أبرز شُروط المملكة العربيّة السعوديّة إقامة الدّولة الفِلسطينيّة المُستقلّة وعاصِمتها القدس قبل الانخِراط في أيّ تطبيعٍ، ولكنّ المُصيبة أن الأمريكيين وعلى رأسهم الرئيس بايدن ووزير خارجيّته بلينكن يعيشون في الماضي السّحيق، ولا يُريدون أن يروا المُتغيّرات المُتسارعة في سقف العالم.
السُّؤال الذي يرفض بايدن ونِتنياهو المهووس بهذا التّطبيع الإجابة عليه هو ما الذي يُمكن أن تستفيده المملكة من هذا التّطبيع، ونُضيف إليه سُؤالا فرعيا وهو ماذا استفادت الدّول التي طبّعت قديمًا وحديثًا من هذا التّطبيع، فهل تحسّنت أوضاع الأردن ومِصر وأخيرًا البحرين والإمارات والمغرب والسودان؟ ألم تُصبح أحوال السعوديّة السياسيّة والاقتصاديّة والقياديّة أفضل كثيرًا بعد اتّجاهها إلى الصين وروسيا وإدارة ظهرها لأمريكا؟
هذا الغباء الأمريكي المُتغطرس هو الذي دفع بالمملكة العربيّة السعوديّة وقِيادتها إلى إدارة الظّهر لأمريكا وإنهاء هيمنتها (أيّ أمريكا) بشَكلٍ تدريجيّ “ذكيّ” على مِنطقة الخليج، وخاصّةً تحرير قِطاع الطّاقة، والتوجّه شرقًا إلى الصين وإيران، وشمالًا إلى روسيا الاتحاديّة، والتقدّم بطلبات الانضِمام إلى مجموعة “البريكس” بديل حلف النّاتو، ومنظومة الدّول السّبع.
نُريد أن نُذكّر الوزير بلينكن أن هذا التّطبيع الذي يسعى إليه باتَ “موضةً قديمةً” تجاوزها الزّمن، وأن إسرائيل التي يعرفها لم تعد قادرةً على حسم الحُروب، ليس لأنّها ليست قويّةً وإنّما لأنّ العرب وحليفهم الإيراني الجديد وأذرعة مُقاومتهم أصبحوا أقوى منها، لامتِلاكهم مِئات الآلاف من الصّواريخ الأسرع من الصّوت والمُسيّرات، وفائض مالي كبير بعد اتّفاق “أوبك بلس”.
عُنصريّتكم واستِهتاركم بالعرب والمُسلمين هي التي أوصلتكم إلى حالةِ الاستِجداء التي تُمارسونها حاليًّا لإعادة نُفوذكم إلى المِنطقة، ولكن بِضاعَتُكم، والإسرائيليّة خُصوصًا، باتت فاسدةً مُنتهية الصلاحيّة.
نقولها للوزير بلينكن، وللتّذكير فقط، ماذا فعلتم لاتّفاقات أوسلو التي جرى توقيعها في حديقة البيت الأبيض، قبل ثلاثين عامًا بالتّمام والكمال، وماذا قدّمتم للسّلطة التي وقّعتها وارتكبت بهذا التّطبيع أكبر إثم في تاريخ الأمّة، ثم ماذا فعلتم للزميلة الصّحافيّة الشّهيدة شيرين أبو عاقلة، التي تحمل جنسيّتكم، وجرى اغتِيالها أمام عُيونكم، وهل كُنتم ستسكتون لو كان هؤلاء الأمريكيين الذين اعتدى عليهم المُستوطنون وحرقوا بُيوتهم شِمال الضفّة من غير أُصولٍ عربيّة فِلسطينيّة، إسلاميّة ومسيحيّة، أو لو كان المُعتدي ليس يَهوديًّا صُهيونيًّا مُغتصبًا للأرض؟ ألا تخجلون من نفاقكم وازدواجيّة مواقفكم، وكذب كُل ما ترفعونه من شِعارات العدالة وحُقوق الإنسان؟
خِتامًا نقول للوزير بلينكن إن ادّعاء حُكومتكم “القلق” من جرائم المُستوطنين، تعكس أبشع أنواع الكذب والرّياء، فأنتم لا تقلقون، وإنّما تُترجمون هذا القلق إلى صواريخٍ وطائراتٍ حديثة ومِئات المِليارات من الدّولارات، لدعم حليفكم الإسرائيلي، الغاصِب المُحتل العُنصري وجرائمه ومجازره حتّى لو كان الضّحايا أمريكيين يَنُصّ الدّستور الأمريكي على حِمايتهم..
فهل عرفت الآن يا سيّد بلينكن لماذا يُساند مُعظم العرب والمُسلمين، والأفارقة وجيرانكم الجنوبيين الجانب الروسي في حرب أوكرانيا، والصيني في حالةِ اندِلاع شرارة الحرب الأكبر المُنتَظرة في تايوان؟ نأمَل ذلك.. والأيّام بيننا.
المصدر: رأي اليوم