عطوان: هل سيُسلّم الرئيس أردوغان قادة المُعارضة السوريّة المُسلّحة والسياسيّة إلى دِمشق على غِرار “ماهر دغيم” والمِصريّة الإخوانيّة إلى القاهرة؟ وما هي الأسباب الحقيقيّة وراء هذا الانقِلاب المُفاجئ والسّريع في مواقفه؟ وأين أخطأ واين أصاب؟ وهل نحنُ نعيش مرحلة ما قبل النّهاية للإسلام السّياسي في الشّرق الأوسط..!
أبين اليوم – مقالات وتحليلات
بقلم/ عبد الباري عطوان
عندما زار الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان القاهرة في مُنتصف شهر تشرين الثاني عام 2012 حيث كان الحُكم في قبضة حركة الإخوان المُسلمين، أدلى بتصريحٍ أثار غضب مُضيفيه في قصر الاتحاديّة، وخاصّةً الرئيس محمد مرسي، لأنّه طالب بحُكمٍ “علمانيّ”، وليس إسلاميًّا في البلاد.
السيّد سفر طوران مُستشاره للشّؤون العربيّة في ذلك الوقت، اتّصل بي هاتفيًّا، وقال لي إن الرئيس استغرب حالة الغضب هذه، وطلب أن أسألك عن تفسيرك لها، فقلت له إن الرئيس ربّما “أخطأ” بالمُطالبة بدولةٍ “علمانيّة” في دولةٍ يحكمها حزب إخواني إسلامي، لما تنطوي عليه هذه الكلمة من معاني “شِركيّة”، لها وقع سيء في أذهان جماعات الإسلام السّياسي العربي الذين يربطونها بـ”الإلحاد”، وكان عليه أن يستخدم تعبير “الدولة المدنيّة”، وحتى هذا التّوصيف غير مقبول، وكانوا يتوقّعون منه الدّعوة لدولةٍ إسلاميّةٍ ودعمها.
السيّد طوران عاد إليّ بعد ما يقرب النصف ساعة، ليقول لي ما معناه إن الرئيس أردوغان “تعمّد” استخدام هذا التعبير، وعليك أن تتذكر أنّه كان يُخاطب الجُمهور التركي في دولةٍ علمانيّة وليس الجُمهور الإخواني المِصري، حتى لا يظهر بمظهر الرئيس الإسلامي المُتشدّد، والمُتناقض في أقواله، ويُعطي كلّ طرفٍ ما يُريد.
تذكّرت هذه الواقعة اليوم، وانا أُتابع تطوّرات حدثين على درجةٍ عاليةٍ من الأهميّة، ويلعب فيهما الرئيس أردوغان دورًا رئيسيًّا:
الأولى: الشّكوى المريرة التي عبّر عنها الدّاعية المِصري، وأحد قادة حركة الإخوان المُسلمين، الشيخ وجدي غنيم، عن رفض السّلطات التركيّة منحه الجنسيّة، أو حتى تجديد إقامته الرسميّة، رُغم وجوده في إسطنبول مُنذ تسع سنوات، وطالبته بالرّحيل.
الثانية: ظُهور ماهر دغيم القيادي السّابق في المُعارضة السوريّة المُسلّحة، ورجل الأعمال الحالي في أكثر من “فيديو” يشرح فيه تفاصيل سحب جنسيّته التركيّة، وإلغاء جواز سفره، وترحيله إلى قطر التي قامت بتسليمه إلى السّلطات السوريّة حيث ينتظره حُكمًا بالإعدام بتُهمة الإرهاب.
كان لافتًا أن هاتين الحادثتين، ظهرت وقائعهما على السّطح، بعد أيّامٍ قليلة من انتهاء الانتخابات الرئاسيّة والتشريعيّة التركيّة التي فاز في كلتاهما الرئيس أردوغان بأغلبيّةٍ كبيرةٍ في الثانية (البرلمانيّة)، وفارق خمس نقاط في الأولى (الرئاسيّة)، ممّا يعني أن الرئيس أردوغان بات مُقدمًا على عمليّة تغييرٍ جذريّة في توجّهاته السياسيّة، وتحالفاته السياسيّة فيما هو قادمٌ من أيّامٍ بالتّالي.
أربعة أسباب رئيسيّة تقف خلف هذا التّغيير المِحوري، والانقلاب السّياسي الشّامل في موقفِ الرئيس أردوغان:
الأوّل: انتصار الدولة السوريّة، وصُمود جيشها العربي، وثبات حُكم الرئيس عبد الفتاح السيسي في مِصر، والصّعود القويّ للسعوديّة على الخريطة العالميّة بقيادة الأمير محمد بن سلمان، وتولّي الشيخ محمد بن زايد القيادة رسميًّا في دولة الإمارات العربيّة المتّحدة، وسُقوط حُكم الإخوان في السودان وتونس، ممّا يعني عمليًّا انتهاء صفحة الرّبيع العربي وحركات الإسلام السّياسي التي قادته.
ثانيًا: وقوف الرئيس أردوغان في خندق التّحالف الروسي الإيراني السوري في مُواجهة مُعارضة علمانيّة قويّة برئاسة حزب أتاتورك الجُمهوري، وتعاظم الدّور القومي التركي المُعادي للمُهاجرين فيها، وانحِياز الولايات المتحدة للمُعارضة، وكُل هذه عوامل، مُجتمعة أو مُتفرّقة، ستُشكّل ضُغوطًا، وربّما “مُؤامرات” في الفترة المُقبلة للإطاحة بحُكم العدالة التنمية، أو زعزعة استقراره، ولهذا بدأ يتخلّى عن “أعباء” الإسلام السّياسي، والانفِتاح على دُول الجِوار.
ثالثًا: أردوغان لن يسمح بوجود مُتطرّفين إسلاميين عقائديين أو مُسلّحين، سواءً في تركيا أو دُول الجِوار، خشية انتِشار هؤلاء في الوسط الاجتماعي التركي في المرحلة الحسّاسة المُقبلة.
رابعًا: تركيا مُقدمة على أزماتٍ اقتصاديّةٍ طاحنة سيلعب الغرب الذي انهزم حُلفاؤه في الانتخابات الأخيرة، دورًا كبيرًا فيها، وكانت أوّل مُؤشّراتها انخِفاض سِعر الليرة التركيّة إلى مُعدّلات غير مسبوقة (تجاوزت حاجز العشرين ليرة مُقابل الدّولار) وارتفاع نسبة التضخّم مجددًا، وجميع الدول التي يُمكن أن تُقدّم له الدّعم (باستِثناء قطر حاليًّا) للخُروج من هذه الأزمة، مُعادية للإسلام السّياسي ولا تكنّ ودًّا لحركة الإخوان المُسلمين على وجه الخُصوص، ونحن نتحدّث هُنا عن دول الخليج بالتّحديد، فالرئيس أردوغان يُريد المال والاستثمارات لإنقاذ الليرة، وبالتالي الاقتصاد، ولعبت هذه الدّول دورًا كبيرًا في ترجيح كفّته في الانتِخابات بضخّ عشَرات المِليارات في البنك المركزي التركي، والإمارات والسعوديّة على وجه الخُصوص.
الرئيس أردوغان أساءَ فهم الخريطة السياسيّة العربيّة في السّنوات العشر الماضية في تقديرنا عندما وضع كُل بيضه في سلّة الإسلام السّياسي، وتجاهل كُل القِوى الأُخرى، سواءً القوميّة أو الليبراليّة، أو اليساريّة، مُضافًا إلى ذلك أنه لم يكن إخوانيًّا في أعماقه، وعندما أدرك أن ورقة الإسلام السّياسي فقدت مُعظم قُوّتها، تخلّى عنها كُلّيًّا، وتخلّص من تبعاتها، وبسُرعةٍ أكثر من المُتوقّع، وهُناك من يقول إنه لم يكن مُؤمنًا بهذا النّوع من الإسلام، واستخدم أتباعه كأدوات تخلّص منها بعد أن باتت ورقةً محروقة.
صحيفة “الإيكونوميست” البريطانيّة عبّرت بشكلٍ دقيق عن هذا الانقِلاب في موقف الرئيس أردوغان عندما قالت في مُقدّمة مقالٍ لها نشرته قبل بضعة أيّام، إن زوّار الرئيس أردوغان ومسؤوليه، فُوجِئوا بأنّه كان يُقدّم لهُم عصير المانجا طيّب المذاق والنوعيّة، وعندما سألوا عن مصدره، قال لهم إنها جاءت هديّةً من الرئيس المِصري عبد الفتاح السيسي الذي كان يُعتَبر من أكبر خُصومه.
مُفاجأة عصير المانجا المِصري الأصل ربّما كانت “هيّنة” مُقارنة بمُفاجآت الرئيس إردوغان الكُبرى القادمة التي لا نستبعدها، وقد يكون أبرزها لقاء قمّة مع الرئيس السوري بشار الأسد الخصم الآخر، وتسليم العديد من المُعارضين السوريين إلى دِمشق على غِرار “ماهر دغيم” أو إبعادهم كُلّيًّا من تركيا وسحب جميع إقاماتهم وجنسيّاتهم.. والأيّام بيننا.
المصدر: رأي اليوم