عطوان: كيسنجر الذي يحتفل اليوم بعيد ميلاده المئة.. داعية سلام أم مُجرم حرب؟ ولماذا غيّر فتاويه عن الحرب الأوكرانية ثلاث مرّات؟ وما هي أبرز نجاحاته وإخفاقاته في الشّرق الأوسط..!
أبين اليوم – مقالات وتحليلات
بقلم/ عبد الباري عطوان
يحتفل هنري كيسنجر “الثّعلب العجوز” مثلما يصفه مُحبّوه اليوم، ببُلوغه المئة عام من عُمره، ورُغم ذلك ما زالت آراؤه وفتاويه السياسيّة والأمنيّة تحظى باحترامِ الكثيرين في بلاده وأوروبا والعالم، ويعتبره البعض دبلوماسيًّا عبقريًّا بسبب دوره في مُفاوضات إنهاء الحرب الفيتناميّة، ولكنّ الوقائع على الأرض، وصُمود المُقاومة الفيتناميّة ألحقت الهزيمة بالولايات المتحدة، ورفض المُفاوض الفيتنامي الشّمالي الشّرس لي دك ثو جائزة نوبل للسّلام الذي جرى منحها له وشريكه كيسنجر عام 1973 احتفالًا بالانتِصار الذي هو أهمّ من كُلّ الجوائز.
كيسنجر لا يستحقّ الألقاب التي أُعطيت له كداهية، ودبلوماسي عبقري خبير في مُفاوضات السّلام، فهذا الدّهاء يعود إلى قوّة أمريكا في حينها، وضعف وأحيانًا غباء الآخرين، فقد أظهرت الوثائق الرسميّة أنه كان من أبرز دُعاة الحرب، وتسبّب في مقتل مئات الآلاف في فيتنام وكمبوديا، وبَذر بُذور وأدِ الديمقراطيّة، وتكريس الانقلابات العسكريّة في أمريكا الجنوبيّة (كان صاحب خطّة الإطاحة بحُكومة سلفادور أليندي المُنتخبة، في تشيلي ترتيب انقلاب أوغستو بينوشيه) ولعلّ شهادة السّيناتور اليساري بيرني ساندرز التي قال فيها “إنّي فخورٌ بالقول إن كيسنجر ليس صديقي) وإنه أكثر وزير خارجيّة تدميرًا في التاريخ بسبب سِياساته التي اتّبعها عندما كان في السّلطة في السّبعينات من القرنِ الماضي.
كيسنجر غيّر آراءه تُجاه الحرب في أوكرانيا أكثر من مرّةٍ، ففي البداية حذّر من انضِمام أوكرانيا إلى حلف الناتو والاتّحاد الأوروبي لتجنّب المُواجهة والحرب العالميّة الثالثة مع روسيا الاتحاديّة، وطالب أوكرانيا بتقديم تنازلات عن أراضيها لموسكو، وخاصّةً شبه جزيرة القرم، ولكنّه وتحت ضُغوطٍ من السّلطات الأمريكيّة، تراجع عن هذه التّصريحات، وعاد وأيّد انضِمام أوكرانيا لحلف الناتو باعتِباره الحلّ الوحيد لأنّ حِيادها لم يعد ذو معنى.
اليوم وبعد بُلوغه المئة عام عاد كيسنجر إلى تصريحاته القديمة، وتِكرار قوله بأنّ انضِمام أوكرانيا إلى حِلف الناتو كان خطأً فادحًا، وأدّى إلى اندِلاع الصّراع المُسلّح، وإرسال روسيا قوّاتها لاجتِياحها، وتوسيع حِلف الناتو كان يجب أن يتوقّف في بولندا فقط، لأنّ انتِصار روسيا سيُحوّل الحِلف إلى غبار، وكان من المفروض أخذ مخاوف بوتين في عينِ الاعتِبار.
لا نعرف أسباب هذه التقلّبات في موقف كيسنجر، واحتِلالها العناوين الرئيسيّة في الإعلام الغربي، فهل هي انعكاسٌ لتقدّمه في السّن، وبُلوغه مرحلة الخرف، أم أنها تأتي، أيّ التقلّبات، وفق تطوّرات الحرب الأوكرانيّة العسكريّة، وبهدف الدّفع باتّجاه التّصعيد العسكري، أو تهيئة المناخ لتهدئةٍ تُمهّد الطّريق لمُفاوضاتٍ سياسيّةٍ تُؤدّي إلى تسويةٍ سِلميّة؟
مُعظم المؤشّرات القادمة من ميادين المعارك تؤكّد أن خسائر الحِلف الأمريكي تتصاعد، وأن ضمّ روسيا لخمسة أقاليم: أربعة في دونباس، والخامس في شبه جزيرة القرم، بات أمْرًا واقعًا، ويتعزّز يومًا بعد يوم، خاصّةً بعد هزيمة الجيش الأوكراني في باخموت الاستراتيجيّة، والسّيطرة الكاملة للجيش الروسي عليها، بعد عدّة أسابيع من المعارك، ولا نعتقد أن إرسال طائرات مُقاتلة من طِراز (إف 16) و(إف 15)، سيُغيّر المُعادلات على الأرض، لأنّ الجيش الروسي يملك صواريخ “إس 400″ و”إس 500” وطائرات “سو 35” القادرة على إسقاطها، وإفشال مهامها، ولعلّ فتاوى كيسنجر الأحدث تُريد إرسال رسالة ينصح مضمونها بوقف الحرب عبر المُفاوضات، والتّسليم بسُوء التّقدير للقوّة الروسيّة، وسُوء فهم عقليّة الرئيس بوتين، وإدارته القويّة في تنفيذ تهديداته ومُخطّطاته للحِفاظ على مصالح بلاده، وتعزيزها كقوّةٍ عُظمى لا تُخيفها الحِصارات الأمريكيّة.
هنري كيسنجر كان صُهيونيًّا وَفيًّا ومُخلصًا لدولة الاحتِلال الإسرائيلي ومشروعها العُنصري الفوقي، وكرّس كُل حياته الرسميّة وغير الرسميّة، في خدمة أبناء عقيدته الصهيونيّة، ولم يُدرك هذه الحقيقة إلا ثلاثة زُعماء هُم الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، والعاهل السعودي فيصل بن عبد العزيز، والرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، الأوّل أيّ نيكسون، جرى اتّهامه بالعداء للساميّة، وإيقاعه في مِصيَدة “ووترغيت” وعزله في مُنتصف ولايته الثانية، لأنّه عارض الأطماع الصهيونيّة، والثاني الملك فيصل جرى ترتيب عمليّة اغتِياله، لأنه قاد معركة استِخدام سلاح النفط ضدّ الغرب في حرب أكتوبر عام 1973، وطرد كيسنجر من مجلسه، وربط وقف الحظر بالانسِحاب الإسرائيلي من الأراضي المُحتلّة، وأعلن الجِهاد لتحرير القدس، أمّا الثالث، أيّ الأسد، فلم يثق مُطلقًا بكيسنجر ورفض أن يسير على خُطى أنور السادات بالخُروج من المُعسكر السّوفيتي، والانضِمام للأمريكي ورفع رايات الاستِسلام.
كيسنجر هو الذي أقنع غولدا مائير بعدم إفشاء أسرار تقدّم البرنامج النووي الإسرائيلي، مُقابل إقامة الجسر الجوّي لإنقاذها ودولتها من هزيمة حرب تشرين (أكتوبر) عام 1973، حتى لا يرد السوفييت بدعم برنامج نووي عربي لتحقيق التّوازن، مثلما جاء في كتاب مارتن إنديك “سيّد اللّعبة، هنري كيسنجر وفن دبلوماسيّة الشّرق الأوسط” أحد أبرز تلاميذه، والذي عملت زوجته سكرتيرةً خاصّةً لكيسنجر، وكانت كاتمة أسراره الشخصيّة والرسميّة.
أبرز محطّات فشل كيسنجر العربيّة كان تفكيك منظّمة “أوبك” وإنهاء سيطرتها على أسعار النفط، وأبرز نجاحاته إخراج مِصر من المُعسكر العربي، عبر بوّابة مِصيَدة اتّفاقات فكّ الارتباط أوّلًا، والتّمهيد بذلك لاتّفاقات كامب ديفيد الكارثيّة، ومولودها المُشوّه والخِياني المُتمثّل في اتّفاقات أوسلو، ولعلّ عودة المُقاومة الفِلسطينيّة بقوّة، وبُروز قوّة محور المُقاومة وأذرعه، وصواريخه ومُسيّراته، وخاصّةً صاروخ “خيبر” الإيراني الأسرع من الصّوت 16 مرّة، ويحمل رأسًا مُتَفجّرًا يزن 1500 كيلوغرام، ومِئات الآلاف من الصّواريخ الباليستيّة الدّقيقة، وأكثر من 40 ألف مُسيّرة، ولعلّها بداية قلب جميع المُعادلات في مِنطقة الشّرق الأوسط، وتحرير الأرض والمُقدّسات.. والأيّام بيننا.
المصدر: رأي اليوم