عطوان: ما صحّة الأنباء التي تتحدّث عن توتّرٍ مُتصاعد في العلاقات المِصريّة الإسرائيليّة؟ ولماذا يُهاجم الإعلام الإسرائيلي مِصر بشَراسةٍ هذه الأيّام؟ وهل أحد الأسباب الاتّصالات “السريّة” مع إيران؟ وكيف تحوّل السّلام البارد إلى “جليدي”..!
أبين اليوم – مقالات وتحليلات
بقلم/ عبد الباري عطوان
تتواتر الأنباء هذه الأيّام عن وجود “تَأزُّمٍ” في العلاقات المِصريّة الإسرائيليّة، بدأت مظاهرها تطفو على السّطح، وعلمنا من مصادر وثيقة أن الأسابيع القليلة الماضية شهدت اتّصالاتٍ سِرّيّةٍ بين القاهرة وطِهران لاستِعادة العلاقات إلى صُورتها الطبيعيّة بين البلدين.
هُناك عدّة مُؤشّرات تُؤكّد هذه الفرضيّة، رغم التّكتّم الرّسمي المِصري الشّديد في هذا المِلف، يُمكن حصرها في النقاط التالية:
الأولى: شنّ الصّحافة ومحطّات التّلفزة الإسرائيليّة هُجومًا شَرِسًا على السّلطات المِصريّة كان آخِرها يوم أمس الأول الثلاثاء، من قِبَل أكثر من صحيفة أبرزها “إسرائيل هيوم” والقناة سبعة الرسميّة، والسّبب، أو الذّريعة، منْع، أو بالأحرى، تصعيب زيارة المُواطنين ورجال الأعمال المِصريين سواءً لـ”إسرائيل” أو إلى المناطق الفِلسطينيّة المُحتلّة، وهُناك استِثناءٌ “محدود” للحُجّاج الأقباط إلى كنائس القدس المُحتلّة، وكُل مِصري “يُطَبّع” مع دولة الاحتِلال أو يزورها قد يتعرّض للاعتِقال، وما حدث ليوسف زيدان وقبله محمد رمضان بعض الأمثلة.
الثّانية: طرد مِصر 11 طيّارًا إسرائيليًّا أمس الأربعاء اخترقوا بطائراتهم الأربع الصّغيرة الأجواء المِصريّة، ورفضت السّلطات المِصريّة تزويد طائراتهم بالوقود للعودة، وهُناك تقارير تقول إنّهم حصلوا على إذْنٍ بالهُبوط حسب محطّة “كان حدشوت” التلفزيونيّة، وما زال هذا الموضوع غامِضًا ومن غير المَعروف ما إذا كانوا قيد الاحتِجاز أم جرى السّماح لهُم بالمُغادرة، ولكنّه حادثٌ غير مسبوق.
الثّالثة: كان الحُضور الإعلامي الإسرائيلي في قمّة شرم الشيخ للمناخ التي انعقدت الأسبوع الماضي وشارك فيها الرئيس الإسرائيلي محدودًا، ولم يُسمَح لمحطّات التّلفزة الإسرائيليّة بعمل لقاءاتٍ بحُريّةٍ مُطلقة مع مُواطنين مِصريين إلا ما ندَر، على عكس مُشاركتها في تغطية فعاليّات مونديال قطر، وهي اللّقاءات (في قطر) التي أعطت نتائج عكسيّة بسبب رفض مُعظم العرب، إن لم يكن كلّهم، الحديث إلى مندوبيها، بما في ذلك من قِبَل مُواطني الدّول المُطبّعة.
الرّابعة: فشل مُعظم الزّيارات السّريّة التي قامَ بها مسؤولون أمنيّون إسرائيليّون في ترطيب العلاقات بين البلدين، وآخِرهم الجِنرال وزنين بار رئيس جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشّاباك).
الخامسة: تخصيص القناة السّابعة الإسرائيليّة برنامجًا للحديث عن المُضايقات التي يتعرّض لها السيّاح الإسرائيليين المُتوَجّهين إلى مُنتجع شرم الشيخ، أو أماكن سياحيّة أُخرى، حيث تنزع السّلطات الأمنيّة “كاميراتهم”، وكاميرات سيّاراتهم الخلفيّة، ممّا يُلحِق بها أضرارًا كبيرةً، والسّبب هو عدم استِخدام هذه الكاميرات في التجسّس على مِصر.
السّادسة: ظُهور تقارير إخباريّة في صُحُف ومواقع مِصريّة تتضمّن اتّهامات مُباشرة للسّلطات الإسرائيليّة بالوقوف خلف هجمات تعرّض لها الجيش المِصري وأدّت إلى استِشهاد عشرة من جُنوده (في بئر العبد)، كنَوعٍ من الضّغط على القِيادة المِصريّة.
السّابعة: حُضور الرئيس المِصري عبد الفتاح السيسي للقمّة العربيّة في الجزائر التي أدانت قراراتها الاحتِلال الإسرائيلي لفِلسطين، ودعمت المُصالحة والمُقاومة الفِلسطينيّة، وحذّرت من مخاطر التّطبيع، ومن المعروف أن الجزائر عُضو في حِلف المُقاومة، وتقوم بجُهودٍ كبيرةٍ لمَنْعِ التسلّل الإسرائيليّ إلى القارّة الإفريقيّة، ومنعت قرارًا للاتّحاد الإفريقي بإعطاء دولة الاحتِلال صفة عُضو مُراقب.
قد يُجادل البعض مُحِقًّا بأنّ العلاقات المِصريّة الإسرائيليّة قويّة هذه الأيّام وأن هُناك تنسيقًا بين الجيشين المِصري والإسرائيلي في سيناء، وهذا قد يبدو صحيحًا في العلن، ولكن في السِّر تبدو الصّورة مُختلفة، فما زالت الأبحاث العسكريّة الإسرائيليّة تعتبر الجيش المِصري أحد الأخطار الكُبرى التي تُشَكِّل تهديدًا وجوديًّا للدّولة العبريّة، ولهذا تُريد القِيادة الإسرائيليّة إضعاف مِصر بشَكلٍ عام وجيشها بشَكلٍ خاص، بعد تدمير الجيش العِراقي، وإنهاك المِصري، وما زالت عقيدة الجيش المصري أن “إسرائيل” هي الخطر الأكبر على الأمن القومي المِصري والعربي.
قِيادة الجيش المِصري، وحسب مصادر مِصريّة وثيقة، تعيش حاليًّا حالةً من الغضب غير مسبوقة ومُنذ توقيع اتّفاقات كامب ديفيد قبل 40 عامًا، بعد الكشف عن إعدام ما يَقرُب من 80 أسيرًا مِصريًّا حرقًا في مِنطقة اللّطرون قُرب القدس المُحتلّة أثناء حرب عام 1967 ودفنهم في مقبرةٍ جماعيّةٍ، مُضافًا إلى ذلك استِياء الرّئاسة المِصريّة من عدم إيفاء الحُكومة الإسرائيليّة بالتِزاماتها بإعادة إعمار قِطاع غزّة والإفراج عن أسرى “الجِهاد الإسلامي” الذين اندلعت حرب أيّار (مايو) الماضي كرَدٍّ على هذا الاعتِقال واستَمرّت ثلاثة أيّام سقطت خِلالها مِئات الصّواريخ في العُمُق الإسرائيلي، أبرز هؤلاء الشّيخ بسّام السعدي.
السّلام بين مِصر ودولة الاحتِلال لم يَعُد باردًا، وأصبح جليديًّا في السّنوات الأخيرة، بالمُقارنة مع نُظرائه في الدّول حديثة العهد بالتّطبيع، فبعد أربعين عامًا من توقيع اتّفاق كامب ديفيد، ما زال حجم التّبادل التّجاري بين مِصر و”إسرائيل” مِئة مِليون دولار سنويًّا فقط، بينما يبلغ نظيره بين دولة الإمارات التي يُمثّل عدد سكّانها واحد في المِئة من عدد سُكّان مِصر حواليّ 1.5 مِليار دولار هذه الأيّام، والرّقم مُرَشَّحٌ للتّضاعف ثلاث مرّات في العامَين القادِمين، حسب التّقديرات الإسرائيليّة.
أن نقول كُل ما تقدّم من مُؤشّرات حول “تدهور” ولو محدود في العُلاقات المِصريّة الإسرائيليّة، لا يعني أنّنا لا نُعارض هذه العلاقات كُلِّيًّا دُونَ تردّد، نحن الذين مُنِعنَا من دُخولها (أيّ مِصر) لأكثر من 35 عامًا، ولم نَزُرها إلا مرّةً واحدةً يتيمةً وبعد الثّورة المِصريّة، ولم تتكرّر، وهذا لا يضرنا، لأنّنا نُؤمن بأنّ مُعظم، إن لم يكن هذا الانهِيار العربي، والانكِسارات التي ترتّبت عليه، والتغوّلات الإسرائيليّة جاءت بسبب اتّفاقات كامب ديفيد وتَبِعاتِها.
نُدرِك جيّدًا أن ظُروف مِصر الاقتصاديّة سيّئةٌ جدًّا، وأن دُوَلًا خليجيّةً أغلقت صنابير الدّعم كُلِّيًّا، ولم تَعُد تُقدّم لها إلا فُتات الفُتات، ونجزم بأنّ الحلّ الأسرَع والأمثَل، لتجاوز هذه الأزمات، هو عودة مِصر إلى مِقعَد قِيادة الأُمّة العربيّة، والتصدّي للاحتِلال الإسرائيلي ونُصرَة المُقاومة الفِلسطينيّة المشروعة، ولتَكُن التّجربة الإيرانيّة تحت الحِصار وعُنوانها الأبرز الاكتِفاء الذّاتي في التّسليح والغذاء، والتحوّل إلى قُوّةٍ إقليميّةٍ عُظمى، وستجد القِيادة المِصريّة الشّعب المِصري كُلّه مُوحَّدًا خلفها، والأمّتين العربيّة والإسلاميّة أيضًا.
الشّعب الفِلسطيني ومن خلفه الشّعوب العربيّة مُقدِمٌ على فَجْرٍ جديد إرهاصاته بدأت تتبلور في صُورةِ مُقاومة “نوعيّة” مشروعة في الضفّة، وقبلها في القِطاع، وهذه فُرصة مِصر للعودة عبر هذه البوّابة الوطنيّة الشّريفة لاستِعادة قِيادتها ورِيادتها، ونأمَل أن يكون ذلك قريبًا جدًّا.
المصدر: رأي اليوم