خطوط السياسة البريطانية في الجنوب اليمني؛ هكذا نفذوا اتحادهم
تقوم بريطانيا بعمليات الاعتقال بالجملة والتسفير الجماعي والتي اقتصرت على الجماهير اليمنية من أبناء الشمال الذين يؤلفون القاعدة الأساسية للحركة الوطنية والعمالية بعدن وعلى أبناء الجنوب من أنصار النائب الثائر محمد بن عيدروس الذي…
وإزاء هذا كله تراجعت بريطانيا وجمدت المشروع، ووضعته على الرف؛ ولكن إلى حين.
…تراجعت بريطانيا إذاً ورضيت بتجميد المشروع ولو على مضض، لا لأنها لم تكن تستطيع أن تفرض المشروع فرضاً بالقوة وإنما لأن بريطانيا التي فقدت الأمل في احتلال اليمن احتلالاً مباشراً كانت تؤمل دائماً في أن يتغير الموقف في اليمن من الداخل بأن تقوم حركة داخل اليمن تنبثق عنها حكومة موالية للاستعمار.
وعلى هذا الأمل الخادع عاشت بريطانيا عاماً وبعض عام!!
ولم يحدث الشيء الذي تحلم به بريطانيا وإنما وقعت تطورات وأحداث هامة في العالم العربي وفي اليمن بالذات وداخل الجنوب اليمني نفسه.
# ففي العالم العربي انتصرت مصر على العدوان الثلاثي الغاشم وفجر هذا الانتصار الطاقات النضالية للشعوب العربية ودفع الحركة العربية التحريرية خطوات إلى الأمام.
# وبالنسبة لليمن توثقت العلاقات بينها وبين الدول الصديقة للعرب على رأسها الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية.
# أما داخل الجنوب اليمني فقد انعكست انتصارات الحركة التحررية على كفاح شعبنا هناك لتمده بفيض من القوة والأمل. فانطلقت الحركة الوطنية في عدن متفاعلة متشابكة مع التيار العربي التحرري وازدادت الحركات الثورية في الإمارات حدة والتهاباً، وبرز “مؤتمر الطلبة اليمنيين” بالقاهرة في مبادرة رائعة ليشجب كل الدعوات الانفصالية ويؤكد الخط السليم الوحيد خط الوحدة اليمنية. وانفصل “الجناح اليساري” -كما أسمته الصحف حينذاك- من رابطة أبناء الجنوب ليعمل على بلورة هذا الخط وتدعيمه وتأكيده على المستوى الشعبي باعتباره الهدف الأساسي للشعب وباعتبار أن معركة التحرر والوحدة معركة واحدة لا تتجزأ وأن الضمان الوحيد لإنجاز أهداف شعبنا في التحرر والوحدة هو ربط قضيته الوطنية باليمن الأم.
وسرعان ما التقت حول هذا الهدف كل العناصر الوطنية المستقلة والشريفة.. كل الشعب!!
وخلال هذا كله أرادت بريطانيا أن تستنفد آخر محاولاتها لتحويل اليمن عن موقفها فدعت سمو الأمير البدر ولي عهد اليمن إلى لندن للتفاوض..
وكان واضحاً أن بريطانيا تريد أن تحصل على تسوية لقضية الجنوب اليمني تضمن بها الاستقرار السياسي هناك وعلى الأخص في “المحميات” حيث تثير الحركات الثورية المسلحة قلق بريطانيا وتعرقل مشاريعها الاقتصادية الاستغلالية.
ولكن البدر يرفض الدخول في أية مساومة على مصير شعبنا في الجنوب اليمني المحتل ويطالب بمنح الشعب حقه في تقرير مصيره بعيداً عن أي نفوذ أجنبي و بواسطة إجراء استفتاء شعبي تحت إشراف هيئة دولية محايدة.
وينقطع آخر خيط من آمال بريطانيا!!
هكذا نفذوا اتحادهم
ولا يلبث أن يعود البدر إلى اليمن حتى تعلن الجمهورية العربية المتحدة فيبادر جلالة الإمام أحمد إلى ضم اليمن إليها في اتحاد فيدرالي يضمن استقلال اليمن ضد مؤامرات الاستعمار ويفتح الأمل أكثر فأكثر في تطوير الأوضاع المتخلفة في الشمال.
وهنا تفكر بريطانيا جدياً في تنفيذ مشروع الاتحاد الفيدرالي وتبدأ عملية التحضير له بما أسمته حينذاك “مؤتمر بيحان” على أن يشمل المشروع في المرحلة الأولى ست إمارات من “المحمية الغربية” تقع كلها على حدود اليمن الأم.. ولا حدود!
وتمهد بريطانيا للمشروع بالتخلص من النائب الثائر محمد بن عيدروس الذي كان أكبر دعامة في الجبهة السلطانية المعارضة للمشروع، بل كان قلبها النابض وروحها الثائرة حتى أنه ليصعب علينا أن نضعه في صف السلاطين، فإن مكانه الحقيقي بين طلائع الشعب في المعركة..
تمهد له بسلسلة من العمليات الإرهابية تبدأ بمظاهرة عسكرية قوامها بضع مئات من القوات البريطانية البرية تدخل لحج وتحتلها ومدمرتان حربيتان ترسوان في ميناء عدن ويصاحب ذلك قيام الطائرات البريطانية بقصف مدينة قعطبة بالقنابل قصفاً عنيفاً، وتنتهي بإعلان حالة الطوارئ التي تقوم بريطانيا في ظلها بعمليات الاعتقال بالجملة والتسفير الجماعي والتي اقتصرت على الجماهير اليمنية من أبناء الشمال الذين يؤلفون القاعدة الأساسية للحركة الوطنية والعمالية بعدن وعلى أبناء الجنوب من أنصار النائب الثائر محمد بن عيدروس الذي لجأ إلى الجبال وأخذ يشن حركة مقاومة مسلحة ضد الإنجليز.
وكانت بريطانيا تهدف من وراء ذلك كله إلى إرهاب الشعب وتصفية العناصر المعارضة للمشروع وإلى استعراض عضلاتها أمام حكومة اليمن المستقل بهدف إرهابها والضغط عليها لحملها على مساومة الانجليز، وإلى تشجيع عملائها داخل اليمن للتحرك والانقضاض على الحكومة وإلى عزل الجماهير اليمنية والعمالية بعدن كما كانت تهدف إلى تحويل أنظار الشعب عن المحادثات التي كانت تجري في لندن بين صنائعها السلاطين ووزير المستعمرات البريطاني لإخراج مشروع الاتحاد الفيدرالي إلى حيز الوجود.
على أن سلسلة أعمال الإرهاب لا تنتهي عند هذا الحد. وتستمر قوانين الطوارئ سيفاً مسلطاً على أعناق الشعب وستاراً من حديد ونار يحمي مشاريع الاستعمار. وفي ظل هذه القوانين يساق أبناء الشعب بالجملة إلى المعتقلات والسجون والمنافي.
ويستأنف الاستعمار غداة انتفاضة أكتوبر الخالدة عمليات التسفير الجماعي ضد الجماهير اليمنية من أبناء الشمال على أوسع نطاق وتعطل للمرة الثانية وإلى الأبد صحيفة الفكر التي قادت معركة مقاطعة انتخابات المجلس التشريعي بعدن والتي كانت الصوت الأول والوحيد “لجبهة الكتاب الأحرار” هذه الجبهة التي أعطت الشعب لأول مرة أقوى وأروع قيادة فكرية طبيعية وأصلب نواة لجبهة وطنية عريضة تضم الوطنيين الشرفاء على اختلاف اتجاهاتهم السياسية وتشمل الشعب كله عمالاً وفلاحين وكتّاباً وطلاباً وتجاراً وطنيين وموظفين صغاراً. فكان أن سارع الاستعمار إلى تعطيل صحيفتها الفكر ليعزلها عن الشعب ويقطع صلتها بالجماهير ثم عمل بوسائله الخفية، وبواسطة أعوانه السريين الذين أتقنوا إشاعة التردد في صفوف الوطنيين والسباحة مع التيار الوطني لتجميد نشاط الجبهة وتعويق انطلاقها لكي لا يمكنها من أن تبني لها قاعدة شعبية واسعة ولكي لا تتحول الجبهة إلى تيار سياسي فعال في مجرى الحركة الوطنية الصاعدة.
في ظل هذه المأساة يجري خطا السياسة البريطانية: الحكم الذاتي المشبوه لعدن، والاتحاد الفيدرالي البريطاني للإمارات، وفي اتجاه واحد يصنعان المؤامرة الاستعمارية الكبرى على اليمن، على مستقبل شعبنا اليمني في الجنوب والشمال.
بقي أن نعرف حقيقة الاتحاد الذي أقاموه في الجنوب اليمني المحتل وحقيقة المعاهدة التي تمخض عنها الاتحاد.
فإلى لقاء طويل قادم.
*مقال للأستاذ عبدالله عبدالرزاق باذيب، نشر في صحيفة (الطليعة)، العدد1، 4 أكتوبر 1959. انظر: عبدالله باذيب، كتابات مختارة، الجزء الثاني، ط1، دار الفارابي، بيروت 1978؛ ص11-19.