بريطانيا | أكبر ميزانية دفاع منذ عقود سعياً لوقف «الانحدار»
كتب سعيد محمد*
يتسبّب التراجع المطّرد للقوة السياسية والعسكرية للمملكة المتحدة على المسرح العالمي، في إثارة المخاوف في قلوب اليمينيين بشأن المستقبل، ولا سيّما بعدما كرّت سبحة فشل الجيش في تحقيق مكاسب مستديمة في أيّ من عملياته في السنوات الأخيرة عبر الشرق الأوسط. ومن هنا، جاء التبرير الذي قدّمه رئيس الوزراء، بوريس جونسون، لتسويق ميزانية دفاع استثنائية أقرّها البرلمان بدعم من المعارضة
لندن | بينما تتخبّط الحكومة البريطانية في إدارتها السيّئة لوباء “كوفيد – 19″، وفي وقت تتّجه فيه المملكة إلى صدام جيوسياسي حول “بريكست” مع شركائها الأوروبيين، قد يطيح وحدتها ويتسبّب في انفراط عقدها، أعلن رئيس الوزراء، بوريس جونسون، أكبر زيادة في الإنفاق العسكري، في العقود الأخيرة. زيادةٌ يُعتقد على نطاق واسع أنها ثمن تذكرة الركوب في قاطرة الحرب الباردة الجديدة، التي تشنّها الولايات المتحدة على الصين ودول الجنوب. وبناءً على الإعلان، ستزيد حكومة حزب “المحافظين” من ميزانيّة الحرب، أكثر من 4 مليارات جنيه إسترليني سنوياً، لمدّة أربع سنوات، علاوة على الزيادة التي سبق الإعلان عنها بنسبة نصف في المئة عن معدّل التضخّم للفترة نفسها. وتُمثّل هذه الالتزامات مجتمعة زيادة قدرها 24.1 مليار جنيه استرليني في النفقات، مقارنة بميزانية العام الماضي (أي حوالى 10%). وتنسجم تلك الزيادة مع التوجّهات الاستراتيجية الأميركية لزيادة الإنفاق العسكري التي نفّذها الرئيس دونالد ترامب، في إطار حملته ضدّ الصين، مستكملاً ما بدأ به سلفه باراك أوباما – صاحب سجل أعلى مستوى إنفاق في العقدين الأخيرين – وستواصله إدارة جو بايدن.
وكان سجلّ مطّرد من التدهور الفعلي للقوة السياسية والعسكرية للمملكة المتحدة قد أثار مخاوف اليمين المحافظ الذي يسيطر على البلاد، إذ لم تتمكّن القوات البريطانية من الحفاظ على وجودها العملياتي في أفغانستان، واضطرّت إلى تسليم عمليّاتها في مقاطعة هيلماند إلى الجيش الأميركي. كذلك، هي لم تتمكّن من الحفاظ على وجودها العملياتي في العراق، وانتهى الأمر بقواتها إلى الجمود والتحصّن في مطار البصرة قبل الانسحاب، فيما اقتصرت العمليات في ليبيا وسوريا واليمن على القوات البرية الخاصة، والدعم الجوي والبحري البعيد المدى. وفي جميع الحالات تقريباً، فشلت الأهداف السياسية المعلنة للحكومة وراء مغامراتها الحربية.
ومن هذه الخلفية، جاء تبرير حكومة جونسون للإنفاق الإضافي الهائل، إذ نُقل عنه قوله إن “هذه هي فرصتنا لإنهاء عصر التراجع، وإنعاش قواتنا المسلّحة، وتعزيز نفوذنا العالمي…”، مع العلم أنه لم يحدث أيّ تراجع في الإنفاق العسكري في أيّ وقت قريب. وقبل الإعلان الأخير، كانت المملكة المتحدة تُخصّص رابع أعلى ميزانية عسكرية في العالم، والسابعة كأعلى نسبة مئوية لميزانية الحرب من الناتج المحلّي الإجمالي. ونظراً إلى أن عدد سكّانها يأتي في المركز الحادي والعشرين عالمياً، فإن الميزانية العسكرية كانت، ولا تزال، مبالَغاً فيها، ولا سيما أنها تعكس توجّهات عدوانية مستمرّة لدى النخبة الحاكمة. ولكن إذا كان قد حدث تراجع بالفعل في مكانة الإمبراطورية العجوز، فقد وقع في ظلّ تشكّل عالم ما بعد اتفاقات يالطا نهاية الحرب العالمية الثانية، وتمسّكها بسياسة الذيليّة والالتحاق بالولايات المتحدة خلال العقود الستة الأخيرة، على نحو قلّص جذرياً من الأهمية الاستراتيجية للدولة البريطانية، كلاعبٍ فاعلٍ مستقلّ.
تحافظ بريطانيا على وجود عسكري دائم في سبع ممالك عربية لحماية الأنظمة
وقد حاول جونسون، في معرض دفاعه عن الزيادة الضخمة، تسليط الضوء على دورٍ “إنساني” للقوة العسكرية البريطانية، من خلال “المشاركة في التصدّي لكلّ كارثة إنسانية دولية كبرى وقعت في العقد الماضي”. لكنه تجاهل الدور الفعلي للجيش البريطاني في التسبّب بكوارث مروّعة في ليبيا وسوريا واليمن، وقبلها في أفغانستان والعراق. ومع غياب أيّ معارضة فعلية في البرلمان، الذي يسيطر عليه “المحافظون”، لم يجد جونسون صعوبة تُذكر في الحصول على الأموال، بل إن زعيم حزب “العمّال” الجديد كير ستارمر – من المفترض نظرياً أنه في المعارضة – سارع إلى دعم الخطّة، قائلاً: “إننا نرحّب بالتمويل الإضافي لقوات الدفاع والأمن لدينا، ونتّفق على أن من الحيوي إنهاء ما يسمّيه رئيس الوزراء عصر التراجع”. ولم يكلّف جونسون نفسه عناء توضيح مصدر الأموال الإضافية، لكن عُلم في أجواء الحكومة أن هناك توجّهاً جادّاً لتقليص حادّ في ميزانيّة المعونة المقدّمة إلى البلدان النامية، إلى جانب خيار “المحافظين” المفضَّل الدائم، في خفض ميزانيات الخدمات العامّة.
وجود عسكري دائم في 145 موقعاً حول العالم
وبحسب بحثٍ نُشر، أخيراً، بشأن انتشار القوات البريطانية حول العالم، يتبيّن أن حجم هذا الوجود العسكري أكبر بكثير ممّا كان يعتقد سابقاً، ويضع المملكة في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة. وأفاد تقرير نشرته مؤسّسة تُعنى بالكشف عن السريّة في تعاملات الحكومة البريطانية بأن الجيش البريطاني يحتفظ بوجود دائم في 145 موقعاً تتوزّع على 42 بلداً. وتشمل هذه المواقع 60 قاعدة تديرها القوات البريطانيّة بنفسها، إضافة إلى 85 منشأة يديرها حلفاؤها، مع وجود ملموس ورئيسي لها. ولا تشمل هذه الأرقام المساهمات البريطانية في ما يسمى “قوات حفظ السلام الدولية”، التي توجد في جنوب السودان وفي المنطقة العازلة في قبرص، أو الوحدات الإدارية الملحَقة بـ”حلف شمال الأطلسي”، فضلاً عن العمليّات السرّية للقوات الخاصة، أو المتعاقدين، أو فرق الأمن والتدريب التابعة للقطاع الخاص والصناعات العسكرية، التي لا يعرف كثيرون، حتى داخل الحكومة البريطانيّة، الرسمي منها من غير الرسميّ.
وتحافظ بريطانيا على وجود عسكري دائم في سبع ممالك عربية لحماية الأنظمة، ودعم الحروب الأميركية في المنطقة، بما فيها وجود كبير في الأردن وقطر والإمارات المتحدة (انطلقت منها عمليّات عديدة في العراق وسوريا وليبيا)، و15 موقعاً في السعودية (ينخرط بعضها على الأقل في المجهود الحربي ضدّ اليمن)، و16 موقعاً في عُمان، إضافة إلى 17 منشأة في قبرص قبالة الساحل السوري. وهناك قواعد بريطانية أيضاً في ستة بلدان أوروبية، وعبر أفريقيا شرقاً وغرباً (كينيا والصومال وجيبوتي وملاوي وسيراليون ونيجيريا ومالي)، إضافة إلى خمس قواعد في محيط الصين: قاعدة بحرية في سنغافورة، حاميات في بروناي (بالتعاون مع شركة شل للبترول)، مواقع إطلاق الطائرات من دون طيار في أستراليا، ثلاثة مرافق في نيبال، وقوة للتدخل السريع في أفغانستان. وهناك 60 من كبار الضباط البريطانيين الذين يديرون عملياً وزارة الدفاع الأسترالية.
وتجري الحكومة البريطانية حالياً مراجعة شاملة لاستراتيجيتها الدفاعية بعد “بريكست”، لن تُنشر قبل العام المقبل، لكن من الواضح، وفق تصريحات وزراء الدفاع المتعاقبين، أن “المملكة تريد توسيع وتعميق وجودها العسكري حول العالم”، وأنّ “هناك سوقاً لطلب متزايد من دول عديدة لوجود قوّات بريطانيّة دائمة فيها”. ومن المعروف أن سلطان بروناي والمملكة العربية السعودية، يتحمّلان جميع تكاليف وجود قوات لندن على أراضيهما. وهناك عقود منفصلة لدعم “لواء الأمن الخاص” التابع للحرس الوطني السعودي، وهو وحدة مخصّصة لحماية أفراد الأسرة الحاكمة وتعزيز “الأمن الداخلي”.
وفي أيلول/ سبتمبر الماضي، أعلنت الحكومة البريطانية عن استثمار استثنائي بنحو 25 مليون جنيه استرليني، لغاية توسيع قواعد قواتها في عُمان، لتمكينها من استيعاب حاملات الطائرات الجديدة التابعة للبحرية الملكية، إضافة إلى العديد من مرابض الدبابات. وبعد سحق الانتفاضة الشعبية في البحرين، عزّزت بريطانيا من وجودها العسكري الدائم في الجزيرة، مع بناء قاعدة بحرية افتتحها الأمير أندرو، الصديق الشخصي للملك حمد، في عام 2018. وهناك وجود عسكري بريطاني في الكويت أيضاً، لكنّ الكويتيين يتحفّظون على كشف دور الضبّاط البريطانيين في إدارة شؤون الدفاع في الإمارة – التي تشارك بهدوء في المجهود الحربي ضدّ اليمن.
ومن المؤكّد أن القوات البريطانية الخاصة ناشطة في سوريا (ربما في محيط التنف وشمالاً بالقرب من منبج). ويجري تزويدها جواً من قبرص، حيث رُصدت طائرات النقل التابعة لسلاح الجو الملكي البريطاني تقلع من الجزيرة قبل أن توقف أجهزة تتبّعها فوق سوريا.