لماذا وقّع بوتين قانوناً يمنح الرؤساء السابقين وأفراد عائلاتهم حصانة مدى الحياة بمجرد مغادرتهم منصبهم؟ هذا الأمر خلق سابقة على صعيد القانون.
تطبيقاً للتعديلات الدستورية التي تمّ إقرارها الصيف المنصرم، وقّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قانوناً يمنح الرؤساء السابقين وأفراد عائلاتهم حصانة مدى الحياة بمجرد مغادرتهم منصبهم، وبالتالي تُمنع محاكمتهم على جرائم تمّ ارتكابها، كما يتمّ إعفاؤهم من الاستجواب والتفتيش والاعتقال وحجز الممتلكات أو غير ذلك. وتبقى الحالة الوحيدة التي يمكن تجريد رئيس سابق من الحصانة هي تهمة الخيانة العظمى أو اتهامه بجرائم خطيرة أخرى، وأن يتمّ تأكيد تلك التهم من قبل المحاكم العليا والدستورية.
واقعياً، إضافةً إلى أهميّته الداخليّة، يمكن لهذا القانون الروسيّ أن يخلق سابقة على صعيد القانون الدوليّ، ويحمي بوتين وميدفيديف من المحاكمة أمام المحاكم الخارجيّة (وخصوصاً المحاكم الأوروبيّة)، بتهمة تعذيب المعارضين أو تسميمهم وسوى ذلك من الاتهامات التي يسوقها الأوروبيون ضد بوتين نفسه.
كيف يمكن ذلك؟
أدّى التطوّر في القانون الجنائي الدولي إلى تكريس مبدأ المسؤولية الجنائية الفردية الذي حوّل المسؤولية من الدولة إلى الأفراد، وبالتالي بات بإمكان محاكمة أي مسؤول في الدولة على جرائم دولية كبرى مرتكبة من دون الاعتداد بالحصانة، ولكن ذلك يكون أمام المحاكم الجنائية الدولية التي لها شروطها وإجراءاتها الخاصّة والمحدّدة.
أما الأمر الأخطر على سيادة الدول، فهو ما يُعرف باسم “الولاية القضائية العالمية” (Universal jurisdiction)، وهي ترمز إلى صلاحية بعض المحاكم الوطنية لمحاكمة مشتبه بهم من دول أخرى، لقيامهم بأعمال تعتبر جرائم دولية، كالإبادة، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، والتعذيب… بغضّ النظر عن المكان الذي حصلت فيه هذه الارتكابات، وبغضّ النظر عن جنسية المتهمين والضحايا.
يشترط لحصول مثل هذه الحالة أن تسمح قوانين دولة الادعاء بإقامة الدعوى استناداً إلى عالمية الاختصاص القضائي، وأن يكون لدى محاكمها صلاحية معاقبة من يرتكب جريمة في الخارج ضد أحد مواطنيها، وهو ما يسمى بالاختصاص القائم على أساس “الجنسية السلبية” أو “الشخصية السلبية”.
المثال على تلك الحالة هو القضايا التي تمّ رفعها ضد بينوشيه في بلجيكا وفرنسا وسويسرا، وقدّمها أفراد من مواطني هذه الدول (أصحاب جنسية مزدوجة)، وزعموا فيها أنهم تعرّضوا للضرر على أيدي بينوشيه في تشيلي، كما كان الادّعاء ضد آرييل شارون أمام القضاء البلجيكي في مجازر صبرا وشاتيلا أحد تطبيقات هذه الولاية القضائية.
قضيّة بينوشيه كانت السابقة الأولى التي يقوم فيها قضاة أوروبيون بتطبيق مبدأ الولاية القضائية العالمية، معلنين أنفسهم أصحاب اختصاص في محاكمة جرائم ارتكبت من قبل رئيس دولة سابق، على الرغم من صدور عفو بحقّه من قبل السلطات التشيلية في وقت سابق.
وقد تطوَّر هذا المبدأ واستقر بالاعتداد بمبدأ الحصانة مع حكمين صادرين عن محكمة العدل الدولية، وذلك على الشكل التالي:
أ- قضيَّة الرئيس التشادي الأسبق حسين حبري المتهم بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية والتعذيب، والذي فرّ إلى السنغال بعد انقلاب عسكري أطاح به في العام 1990.
قام الضحايا باللجوء إلى القضاء البلجيكي والادعاء عليه استناداً إلى مبدأ الولاية القضائية العالمية، فتمّت إدانة حبري غيابياً، والطلب من السلطات السنغالية تسليمه، الأمر الذي رفضته السنغال. وبعد أن اعتبرت بلجيكا أن رفض داكار محاكمته بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية أو تسليمه يعدّ “انتهاكاً للالتزام العام بقمع جرائم القانون الدولي الإنساني”، رفعت الأمر إلى محكمة العدل الدولية في 19 شباط/فبراير 2009، مطالبة هذه المحكمة بأن تأمر السنغال بمحاكمته أو تسليمه.
أصدرت محكمة العدل الدولية حكمها في القضية في تموز/يوليو 2012 بالإجماع، فطالبت السنغال بمحاكمة حبري “من دون إبطاء” أو بتسليمه إلى بلجيكا للمحاكمة. بعد أخذ ورد استغرق أشهراً عدّة، رضخت السينغال، وقررت محاكمته على أراضيها.
ب- قضية وزير خارجية الكونغو عبد الله يروديا دومباسي.
قامت مجموعة من الضحايا في العام 2000 بالادّعاء أمام القضاء البلجيكي على وزير خارجية الكونغو عبد الله يروديا، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. وصدر حكم الإدانة بحقه في 11 نيسان/أبريل 2000، وتمّ إصدار مذكرة دولية لاعتقاله وتسليمه إلى السلطات البلجيكية.
على إثرها، تقدمت الكونغو بشكوى ضد بلجيكا أمام محكمة العدل الدولية، بتهمة انتهاكها سيادة الكونغو والمسّ بحصانة وزير خارجيتها، فأصدرت حكمها في 14 شباط/فبراير 2002، وأعلنت أن مذكرة التوقيف البلجيكية الصادرة بحق وزير الخارجية الكونغولي السابق عبد الله يروديا دومباسي “غير قانونية”، وأكّدت ضرورة الاعتداد بحصانات المسؤولين السياسيين في مواجهة الدول الأجنبية، ولو بمناسبة الجرائم الدولية المنسوبة إليهم، ما دامت دولة جنسية الجاني لم تتنازل عن الحصانة التي كفلتها له، وما دامت صفته الرسمية تعطيه هذه الحصانة.
وهكذا، نستنتج أنَّ الحصانة التي تمنحها الدّولة لمسؤوليها لا يمكن تخطيها أمام المحاكم الخارجية، وهذا يعني أن الحصانة التي منحها الدستور الروسي الجديد للرؤساء السابقين مدى الحياة، ستمنع أي إمكانية للمقاضاة في الداخل، كما تمنع على أي دولة خارجية أو مواطنيها (أصحاب الجنسية المزدوجة مع روسيا) الادعاء على بوتين أو سواه بتهمة انتهاك حقوق مواطنيه الروس أو القتل أو التسميم أو التعذيب.