ما هي العِبارة الأخطر التي لفتت نظرنا في خِطاب السيّد حسن الأخير؟ وأينَ أخطأت قِيادة العدوّ التّقدير؟ وهل تآكلت منظومة الرّدع التي كانت تتباهى بها؟ وهل انتِقال قطاع غزّة إلى جنوب لبنان في طور الاكتِمال؟ وماذا يعني المُصطَلح الجديد “الرّد المُناسب والمُتناسب”؟
بقلم/عبد الباري عطوان
أن تُهروِل “إسرائيل” إلى مجلس الأمن الدولي أربع مرّات في أقل من عشرة أيّام شاكيةً باكيةً من جرّاء هُجوم إيراني “مزعوم” على أحد سُفنها في بحر عُمان، وإطلاق صواريخ لحزب الله وفصائل مُقاومة في جنوب لبنان، فهذا كافٍ في حَدِّ ذاته كدليل على أنّ مُعادلات القُوّة في منطقة الشّرق الأوسط قد تغيّرت، وأنّ هيبة دولة الاحتِلال السياسيّة والعسكريّة تتآكل بشَكلٍ مُتسارع.
من تابَع خِطاب السيّد حسن نصر الله يوم أمس الذي ألقاه بمُناسبة الذّكرى 15 لانتِصار حرب عام 2006 يخرج بانطباعٍ مفاده أنّ عشَرات الصّواريخ التي أطلقها “حزب الله” “نهار” يوم الجمعة على الحُدود الشماليّة لفِلسطين المحتلّة كانت رسالةً على درجةٍ كبيرةٍ من الخُطورة عُنوانها الأبرز أنّ المُقاومة الإسلاميّة تَفصِل بين انشِغالها بالانهِيار الدّاخلي التي يعيشها لبنان حاليًّا وبين التّهديد الإسرائيلي، وأنّها ستَرُد على أيّ غارة أو عُدوان فورًا دُون أيّ تردّد، وأنّ الأجواء اللبنانيّة لم تَعُد مفتوحةً على مِصراعيها للطّائرات الإسرائيليّة لكيّ تُغير كما تَشاء.
القِيادة الإسرائيليّة، بشقّيها السّياسي والعسكري أخطَأت التّقدير، ربّما للمرّة العاشرة وأكثر عندما اعتقدت أنّ انشِغال حزب الله بهذه الأزمة الداخليّة سيمنعه من الرّد على الغارات الإسرائيليّة، مثلما اعتقدت أيضًا أنّ الصّواريخ الأربعة التي انطَلقت من جنوب لبنان يوم الأربعاء على مُستوطنة كريات شمونة (الخالصة) جاءت من قِبَل فصيل فِلسطيني من وراء ظهره..
تمامًا مِثل صواريخ الفصائل الأصغر التي تُطلَق من قِطاع غزّة دُون علم حركة “حماس”، ليأتي ردّ السيّد نصر الله و”حزب الله” ليَكشِف غباء الاستِخبارات العسكريّة الإسرائيليّة ومُحلّليها من الجِنرالات الذين يدّعون الخبرة، ويبيعونها لبعض الدّول العربيّة المُطَبِّعة بمِئات الملايين من الدّولارات.
العِبارة اللّافتة التي وردَت في خِطاب السيّد نصر الله بالأمس، تلك التي قال فيها إنّ الرّد القادم سيكون “مُناسِبًا ومُتناسِبًا”، وربّما في العُمُق الفِلسطيني المُحتل ومُرتفعات الجُولان المُحتلّة، وخِياراتنا مفتوحة.
“المُناسب” هو المُوازي للعُدوان الإسرائيلي من حيث الحجم والقوّة، و”المُتناسب” ربّما تعني العين بالعين، والسِّن بالسِّن، والمنزل بالمنزل، والشّهيد بعشرة قتلى على الأقل إن لم يكن أكثر، ولعلّ استِهداف القصف المِدفَعي والصّاروخي المُتبادل الأخير، مناطق خالية في الجانبين هو التّفسير الأوضح للمُعادلة الجديدة وتطبيقاتها العمليّة المُرشَّحة للانتِقال قريبًا إلى الجبهة السوريّة.
الرّدع الإسرائيلي على صواريخ “حزب الله” جاء مُرتَبِكًا ومُتَرَدِّدًا، لأنّ القِيادة العسكريّة الإسرائيليّة تُدرك جيّدًا أنّ الصّواريخ التي استَخدمها “الحزب” كانت من “النّسخة القديمة” والأقل تَطَوُّرًا ودقّة، ولإيصال الرّسالة المذكورة آنفًا، تمامًا مثلما فعلت فصائل المُقاومة في قِطاع غزّة بإطلاق هذه النّسخة، لإشغال القُبَب الحديديّة، واستِنزاف صواريخها، وهذا ما حدَث فِعلًا.
الطّائرات الإسرائيليّة كانت تَرُد بالغارات والقصف على إطلاق فصائل المُقاومة في غزّة البالونات الحارقة، وتُدَمِّر عمارات وتَقتُل مدنيين، وعناصر في المُقاومة، الآن باتت جميع صواريخها تَضرِب الرِّمال أو المناطق الخالية في القِطاع، ولا تقتل أو تُصيب معزة أو نعجة، تمامًا مثلما حدث يوم الجمعة في جنوب لبنان، خوفًا من الرّد الصّاروخي الفوري “المُناسب والمُتناسب”.
ما يُرعِب الإسرائيليين قيادةً ومُستوطنين، هو تناسل الجبَهات المفتوحة ضدّهم هذه الأيّام، وتحوّل الحُدود اللبنانيّة الشماليّة إلى وَضعٍ مُشابه لحُدود قِطاع غزّة، علاوةً على شجاعة “حزب الله” وجُرأته على الرّد بسُرعةٍ، جنبًا إلى جنبٍ مع اشتِعال حرب السّفن التي كسبتها إيران حتّى الآن، وتردّد الأمريكان والبريطانيين في تنفيذ تهديداتهم بالانتِقام للهُجوم بالمُسيّرات على ناقلة “ميرسر ستريت” الإسرائيليّة في بحر العرب، وقتل قُبطانها وأحد حُرّاسها.
التّأثير المعنوي الضّخم لهذه الصّواريخ والمُسيّرات التي أطلقها محور المُقاومة سواءً على أهدافٍ إسرائيليّة في الأطراف الفِلسطينيّة المُحتلّة، أو ضدّ سُفنٍ في البِحار المَفتوحة، أكبر بكثير وأهم من الخسائر الماديّة أو البشريّة، لأنّه يُضْعِف الثّقة بالدّولة وجيشها ومُؤسّساتها الأمنيّة والعسكريّة ويُعَرِّي فشل القِيادة السياسيّة الحاكمة، وإذا كانت الحالة المعنويّة للإسرائيليين اقتربت من الحضيض أثناء حرب غزّة الأخيرة، فإنّها ارتطمت بقاعه بعد صواريخ “حزب الله” الأخيرة، وهذا تَطَوُّرٌ مُهِمٌّ لا يَجِب تجاهله.
نفتالي بينيت لجَأ إلى وزير الدّفاع الأمريكي مُتَسَوِّلًا التَّدخُّل لوقف صواريخ “حزب الله”، تمامًا مثلما هرع سلفه بنيامين نِتنياهو إلى الرئيس جو بايدن طالبًا النّجدة والتّدخّل لدى القِيادة المِصريّة لوقف إطلاق النّار في حرب غزّة الأخيرة، فهل هذه هي “إسرائيل” التي كانت تَحسِم الحُروب في ستّة أيّام، وتَقتَحِم الحُدود، وتُدَمِّر المُفاعلات النوويّة، وتحتل أراضي عربيّة؟
نفتالي، وأفيف كوخافي، وبني غانتس، ومن خلفهم مُعلّمهم نِتنياهو، باتوا يعلمون جيّدًا أنّ هُناك مِئات الآلاف من الصّواريخ الدّقيقة في انتِظار الرّد على أيّ حماقة يرتكبونها، وصدق المسؤول الإيراني، ونعتقد أنّه الجِنرال علي شمخاني، الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، الذي قال إنّ الطّائرات الإسرائيليّة التي تتَجرّأ على قصف إيران لن تعود، لأنّها لن تَجِد مطارات تَهبِط فيها بعد عودتها، ونحن في انتِظار الجولة الصّاروخيّة القادمة التي نَراها قريبةً.. واللُه أعلم.