حلت الذكرى الثالثة لرحيل الفنان الكبير أبو بكر سالم بلفقيه فيما لا تزال اليمن، هي الأم التي غنى لها وتغنى بها، تواجه الحرب والحصار وتواجه التدمير الذي وصل الى معالم الثقافة والتراث والحضارة والفنون، وتعطلت بفعل الحرب المتواصلة كل مظاهر ونشاطات الثقافة والفنون،
ومايزال الفنان اليمني الكبير ابوبكر سالم, حاضرا في اذهان جميع اليمنيين شمالا وجنوبا , الذين لم تنسيهم الحرب والمآسي الذكرى الثالثة لرحيل هذا الفنان العملاق التي تصادف اليوم 10 ديسمبر .
وضجت مواقع التواصل الاجتماعي بعبارات الثناء والمدح على الفقيد وماتركه من ارث فني كبير , وانتقدوا تجاهل المؤسسات الثقافية اليمنية في صنعاء وعدن وحضرموت هذه الذكرى .
واعاد الناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي نشر مقاطع من اغاني الفنان الراحل , مشيدين بالمدرسة الفنية التي اسسها هذا الفنان , ومايملكه من احساس فني غير عادي , وما احدثه من تطور للفن اليمني مؤكدين ان هذا العملاق اليمني ظاهرة فنية لن تتكرر .
وقال نقاد ان فرادة أسلوب ابوبكر الغنائي تتضح في كثير من السمات؛ فهو يملك صوتاً فريداً منضبطاً واسع المساحة بحيث يكون بمقدوره التلاعب بطبقات صوته والارتجال دون الخروج عن المازوة الموسيقية ،وان التجربة الفنية للراحل أبوبكر سالم، حفرت عميقا حضورها الشاسع في وجدان الناس وفي ذاكرتهم، وقد اعتنى ابوبكر بهذه المسألة، وكان دائما ما ينتمي في كل عمل من أعماله الفنية الى الحاجة التي يطلبها الناس من الفن.
ومنذ سبعينيات القرن الماضي، قدم الفنان الراحل انتاجا غنائيا ضخما، أستحق من خلاله أن يتقدم صفوف عمالقة الفن العربي في القرن العشرين. لقد عاش للفن مرتحلا بين عدن وبيروت وجدة والقاهرة إلى أن استقر في الرياض. وفي كل رحلة من رحلاته حمل اليمن وشعبها في ضلوعه وحناياه وصوته وكلماته.
يحكي الفنان والموسيقار أحمد فتحي، أنه “التقى أبو بكر سالم أواخر 1975، وكان حينها يدرس في المعهد العالي في القاهرة حيث عاود النشاط الفني بعد توقف دام سبع سنوات. يقول فتحي، كانت بداية التعاون بيننا وكان الراحل الكبير شغوف جداً بأن يدخل في اللون الصنعاني، واتفقنا على أن يكون أول عمل له أغنية “وامغرد”، وهي من التراث اليمني المعروف، وبدأنا ننسق العمل لها من تحفيظ وتدريب إلى آخرهِ، وكتبنا النوتة الموسيقية ونفذناها ضمن أول ألبوم له كان في القاهرة، ثم غنى قصيدة الشاعر عبدالعزيز المقالح “ظبي اليمن” وبعدها أغنية “رسولي قوم” و”أحبة ربا صنعاء” وكانت تلك المرحلة كما قال هو رحمه الله من أفضل مراحل العمر” .
واشتهرت أغاني من اللون الصنعاني للفنان الراحل أبو بكر، ومنها: “قال المعنى لمه”، و”مسكين يا ناس”، و”يا ليل هل أشكو”، و”بات ساجي الطرف”، و”إذا نسيم القرب نسنس”. كما أجاد اللون الخليجي من خلال عشرات الأغاني التي قدمها، ولاقت شهرة واسعة في الخليج، ورددها عدد من الفنانين. وإلى جانب ذلك، كما يقول نقاد فنيون، احتوت تجربته على كم هائل من الأغاني الفصيحة لشعراء مشهورين، منهم جده أبو بكر ابن عبد الرحمن بن شهاب، الذي غنى له “حي الربوع”، و”بشراك”، و”بهزّك غصن القد”، و”هو الحي إن عاينته”.
وأشارت دراسات فنية الى الملمح الصوفي في أعمال أبو بكر من خلال أناشيده الدينية مثل: “يا ساكنين طيبة” و”إلى طيبة”، و”بانقرع الباب”، و”إلهي في الفلاة دعاك عبد”، و”يا رب يا عالم الحال”. وأرجعت ذلك، الى تأثر أبو بكر سالم منذ نعومة أظفاره بالحياة الصوفية السائدة في تريم، حيث كان يصدح بصوته الشجي تارة مؤذنا وأخرى منشدا لموشحات صوفية أو مترنما بتكبيرات الأعياد.
وفي مدينة تريم محافظة حضرموت، كان مولد أبو بكر بن سالم بن زين بن حسن بلفقيه في17مارس 1939، وفيها كانت نشأته يتيما بعد وفاة والده – وهو لم يكمل عامه الأول – لكنه عاش في كنف أسرة اشتهرت بالأدب والعلم، وجده هو أبو بكر بن شهاب أحد أبرز علماء وشعراء حضرموت، حيث سمي أبو بكر تيمنا به وأخواله من بيت الكاف، وهذه الأسرة أيضا تميزت بالأدب والشعر والثقافة، فاستقى أبو بكر موهبته من أناشيد صوفية يتردد صداها في مساجد تريم التاريخية.
في منتصف الخمسينات غادر مدينة تريم ليستقر في عدن المدينة التي استطاع فيها أن يغوص في الحياة الفنية، حيث كانت قبلة لعشاق الفن. عمل عازف إيقاع لعدد من الفنانين الأمر الذي أدى إلى صقل موهبته، فبدأ نجمه باللمعان وبدأ في غناء أول أغنية “يا ورد محلا جمالك بين الورود”، وهي من كلماته وألحانه وهو لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره. وأطل بهذه الأغنية عبر إذاعة عدن عام 1956، ليبدأ بعد ذلك تأليف وتلحين العديد من الأغاني التي ارتقت به على سلم الشهرة، ومن أهم أغانيه في تلك المرحلة “خاف ربك”، و”يا حبيبي يا خفيف الروح”، و”سهران ليلي طويل”، كما لحّن، وغنى عددًا من القصائد الفصحى مثل “اسكني يا جراح” للشاعر التونسي أبي القاسم الشابي، و”ليلة شعّت لنا بالنور”، و”أقبلت تمشي رويدا”.
ولم يلبث الفنان الراحل أن تعلم العزف بعد ذلك على آلة العود، وقد التقى في هذه المرحلة بكل من الشاعرين: لطفي جعفر أمان، وحسين أبي بكر المحضار الذي شكل معه ثنائيا مدهشا، فغنى للأول “وصفوا لي الحب”، و”كانت لنا أيام”، و”أعيش لك”، وغنى للثاني “ليلة في الطويل”. كما ألف ألَّف ولحن أغنيتي “خذ من الهاشمي”، و”تمنيت للحب”، وغنى في الفترة نفسها أغاني من تأليف الدكتور محمد عبده غانم، ومنها: “قولوا له”، و”قال لي با توب”، و”من علمك يا كحيل العين”.
في بيروت التي وصل اليها في العام 1967 “سجل أبوبكر مجموعة من الأغاني فاتسعت دائرة متلقيه في اليمن والخليج وبلدان عربية أخرى، ومثّلت هذه الخطوة ميلادا عربيا له، وسجل أغاني جديدة موزعة بموسيقى حديثة كانت في مقدمتها “أربعة وعشرين ساعة” التي استحق عنها جائزة الاسطوانة الذهبية من إحدى الشركات الألمانية” ويقول فنانون في شهاداتهم، إنه تم بيع ما يزيد على أربعة ملايين نسخة من هذا الألبوم. وأهم أغاني هذه المرحلة التي اتسمت بمفارقة الوطن “إلا فراقك يا عدن” و”يا طائرة طيري على بندر عدن” و”تسلى يا قلبي”.
يشرح الموسيقار أحمد فنحي: “في بيروت غنت للفنان الراجل أبوبكر كوكبة من الفنانين اللبنانيين، منهم نجاح سلام ونازك وليلى شفيق، وقد أقام في العاصمة اللبنانية حتى العام 1975، ومنها عاد إلى عدن، بعدما بلغت شهرته الآفاق، كما ربطته علاقات ودية مع العديد من الشعراء والفنانين والملحنين”. وبشكل شخصي يقول فتحي “كانت تجمعنا المحبة والفن يربطنا ببعض إلى جانب التعاون الفني والأخوي، وإن كان هو يكبرني سنا حينها. كنت أشعر أنه أخي الأكبر، كانت المحبة تجمعنا وهذا هو الأهم، فعملنا هذه السلسلة من الأغاني واشتركنا في حفلات عدة. كانت مرحلة مزدهرة جدا في تاريخه”
واثناء عودة ابوبكر الى عدن مع اندلاع الحرب الأهلية في لبنان، التقى بالشاعر حسين بن أبي بكر المحضار، وشكل معه ثنائيًا فنيًّا، ليغني زهاء مائتي أغنية من كلماته في تلك الفترة. وبهذا الخصوص يقول الفنان والباحث الموسيقي جابر علي أحمد: “علاقته بالشاعر والملحن المحضار اتاحت له الارتباط بتجربة فنية غذّت جموحه الفني كثيرا، وعززت من حب الناس له. وباستقراره في المملكة السعودية تأمنت له الامكانيات اللازمة لمواصلة إنتاجه الفني على نحو جعل منه قبلة الباحثين عن المتعة الفنية”. وخلال هذه المرحلة غنى “أمي اليمن” الأغنية الوطنية الشهيرة، وبعد حصوله على الجنسية السعودية غنى العديد من الأغاني: “يا مسافر على الطائف”، و”إلا معك في الرياض”، و”برج الرياض”، وكانت أشهرها “يا بلادي واصلي” وهي من كلماته وألحانه.
وعلى صعيد علاقته مع الفنانين وخاصة الشباب والهواة، يتذكر الفنانون الشباب للفنان الراحل أبو بكر، الكثير من الفضل في تشجيعهم وتقديم الدعم والمساندة لهم. ووفقا لشهادة الفنان عبد الرحمن الحداد، فإن ابوبكر لم يبخل على الفنانين الشباب والهواة في سبيل إيصال الأغنية اليمنية لمدى أوسع. وقال الحداد “كنت واحدا من تلاميذه وبدأت حياتي الغنائية متأثرا وعاشقا لصوته، وكان أول لقاء به في المكلا حضرموت سنة 1965 عندما زارها وأقام بها سهرة، وكنت واحدا من أعضاء الكورال بالفرقة المصاحبة له آنذاك، وبعدها أصبح معلما وأخا وصديقا وزميلا وجمعتنا مناسبات مختلفة داخل اليمن وخارجها”.
ويسرد الفنان الشاب فؤاد عبد الواحد قصته مع الفنان الراحل أبوبكر بالقول: “ما زلت أتذكر نصائحه وكلماته المحفزة لخوض الفن، وتشجيعه الكبير على المسرح أو من خلال غنائي معه الأغنية الأخيرة قبل وفاته وهي “خنجر يماني” التي زادتني ثقة وثقافة فنية، حيث أنني لن أنسى هذا الأمر.. لقد وضعني في مكانة كبيرة بقلبه قبل أي شيء. إنه الأستاذ والمعلم والملهم والتاريخ الذي أتشرف أنني شاركته ولو بالقليل الكثير بالنسبة لي”.
وخلال مسيرته الفنية حصد الفنان الراحل بلفقيه العديد من الجوائز والأوسمة كانت أهمها الأسطوانة الذهبية من شركة الإنتاج الألمانية، وجائزة أوسكار الأغنية العربية، ولقب فنان القرن من جامعة الدول العربية، وجائزة أفضل صوت في العالم من اليونسكو. ومن أبرز انجازاته أنه غنى في قاعة ألبرت هول في لندن أكبر مسارح العالم الفنية عام 1983م، وبهذا حصل على لقب فنان عالمي، كما حصل على العديد من الأوسمة من المملكة السعودية والكويت وعمان والبحرين ولبنان ومجلس التعاون ودكتوراه فخرية من جامعة حضرموت، وكرمه الرئيس السابق الراحل علي عبد الله صالح بوسام درجة أولى في الفنون والآداب. كما كرمه الشيخ الراحل زايد بن سلطان بوسام من الدرجة الأولى في الفنون والآداب وأهداه سيفا من الذهب. وحصل الفنان الراحل على جائزة أوسكار الأغنية العربية، في 2002، ولقب فنان القرن من جامعة الدول العربية في شرم الشيخ، بعد مرور 50 سنة على عطائه الفني.