كمال جنبلاط وحافظ الأسد صراع قاتل وروايتان متناقضتان/ سامي كليب
أبين اليوم – متابعات
سامي كليب
لو كان الشهيد كمال جنبلاط على قيد الحياة اليوم، لبلغ من العمر مئة وثلاث سنوات. ولو كان يرى من حيثُ هو الآن ما يجري في لبنان وسورية، لكان حتما سيقول أنهم لو سمعوا منه في البلدين، لما وصلنا الى انتهاء لبنان القديم وتدمير سورية. فهل كان على حق ؟ لا ندري ولكن قائد الحركة الوطنية والزعيم الاشتراكي ذا الثقافة الموسوعية الحقيقية والنزعات الصوفية الروحانية والذي تخطى طائفته الصغيرة الى مجال لبناني وعربي وعالمي أوسع، بقي حتى الرمق الأخير أثناء اغتياله في دير دوريت الشوفية عام 1977، مقتنعا بأنه قادر على تغيير وجه لبنان واقامة علاقة “عروبية” سليمة مع سورية وحماية القضية الفلسطينية، لكن خصومه في البلدين، من الرئيس الراحل حافظ الأسد الى قادة الجبهة الوطنية وخصوصا حزب الكتائب، كانوا يتهمونه بتغليب حلمه الشخصي بحكم لبنان على كل قضية اخرى…. لذلك سنحاول في هذه العجالة، الوقوف على رأي الطرفين، من خلال بعض الكتب والوثائق، وذلك لمناسبة ذكرى وفاة قائد يساري استثنائي رمى الاقطاع خلف ظهره واستشهد لأجل حلمه السياسي وعاش زاهدا ومتواضعا كغاندي.
في كتاب نادر بعنوان ” لبنان وحرب التسوية”، صادر عن مركز الدراسات الاشتراكية في الحزب التقدمي الاشتراكي في نيسان/ ابريل 1977، مجموعة من المقالات الجريئة الى حد الانتحار في توصيف الأزمة اللبنانية والحرب والعلاقة مع سورية حافظ الأسد. هذه المقالات كتبها كمال جنبلاط في أوج بداية الدخول السوري الى لبنان والسعي للسيطرة على كل قراراته. واستخدم فيها عبارات وصلت الى حد تخوين حافظ الأسد على المستوى القومي وتسليط الضوء على طائفته العلوية في مشروعه السياسي. وكانت تلك من الخطوط الحمراء التي تمثل جرأة لم يبلغها أي مسؤول لبنان قبل خروج الجيش السوري من لبنان.
في مقال يحمل عنوان ” جريمة الأخوان” يروي كمال جنبلاط الوضع قبل وفي خلال آخر لقاء جمعه مع حافظ الأسد عشية اغتياله. يقول :” حين استولى الوطنيون على المتين وعينطورة وترشيش، وحاولوا شق طريقهم نزولا لكي يتلاقوا مع القوى الوطنية الزاحفة باتجاه بيت مري، قامت قيامة حافظ الأسد وربعه، وتحرك الجيش السوري لمنع استمرار الهجوم وللحؤول دون انكسار القوى الانعزالية، وكانت جلستنا هي الجلسة الأخيرة مع حافظ الأسد وبعض أعوانه في دمشق، وظهرت بوضوح اللعبة التي يلعبها النظام السوري في دعم التكافوء القتالي في لبنان دون تمكين أحد الفريقين من السيطرة على الآخر… وهكذا لعب النظام السوري الحاكم في دمشق أوسخ عملية ابتزاز للقوى اللبنانية.. لان المهم كان عند حافظ الأسد واعوانه هو ان يخرج من معركة لبنان حاملا بيده حلا سياسيا للبنان ترضى عنه وتؤيده اوروبا المسيحية وترضى عنه وتؤيده الولايات المتحدة الاميركية وتطور الوضع بالسوريين او بحلفائهم على صعيد تنفيذ المؤامرة من أميركيين واسرائيليين الى التوهم بأن سوريا قد تخرج من هذه المعركة وقد وضعت يدها على قسم غير يسير من الارض اللبنانية…. “
ويخلص جنبلاط الى القول :” سنبقى في هذه الدوامة من غلاظة اليد البعثة السورية الى أن يتفق جميع اللبنانيين على التخلص من هذا الضيف الثقيل … فقد تلاقى السوريون مع الانعزاليين الطائفيين في محاولة منع الحركة الوطنية من النجاح بتبديل النظام السياسي بالشكل الذي ترتأيه ويوجبه المنطق، وقد تحول نظام حافظ الأسد على عداوة ضارية ليس فقط للقضية القومية المتمثلة بشعب فلسطين وقيادته بل ايضا بالنسبة لشعب لبنان الوطني ” .
كانت نقمة كمال جنبلاط آنذاك قد وصلت الى ذروتها ضد الأسد الذي منعه من استكمال سيطرة الحركة الوطنية عسكريا على كامل لبنان وتغيير النظام فيه. لكن ربما كان خطأه آنذاك، هو في عدم معرفة البعد الاستراتيجي لرغبة الاسد بدخول لبنان وتكبير وتعزيز دور سورية في المنطقة، واتفاقه الضمني الكبير مع وزير الخارجية الاميركي هنري كيسنجر بعد عامين على الحرب العربية الاسرائيلية عام 1973، ورغبة الاميركيين بكسب الأسد الى جانبهم واستكمال كامب دافيد باتفاقيات عربية اسرائيلية اخرى. ولذلك فقد باع الاميركيون لبنان آنذاك بثمن بخس، ونجحوا في احداث اكثر من صدام وتطويق الحركة الوطنية وياسر عرفات.
فكما يقول فاروق الشرع النائب السابق للرئيس السوري في كتابه القيّم ” الرواية المفقودة” : ” كان الرئيس حافظ الأسد يفكّر استراتيجيا، ولا يمثل التكتيك لديه سوى حركة لاحدى القطع على رقعة الشطرنج يجب ان تهدم الهدف الاستراتيجي” . لبنان كان آنذاك بيدقا في رقعة شطرنج كبيرة لاعبوها الاساسيون هم اميركا واسرائيل من جهة وسورية من جهة ثانية.
الواقع أن ما كان سراً دفينا حتى سنوات قليلة، كشفته الوثائق الرسمية الاميركية والسورية. ففي كتابها الزاخر بوثائق القصر الرئاسي ” وثيقة وطن” ( وهذه من المرات النادرة التي يفتح فيها السوريون ارشيفهم)، كشفت د. بثينة شعبان المستشارة السياسية ( وهي كانت المترجمة الرسمية لحافظ الأسد ثم المستشارة السياسية لنجله الرئيس بشار الأسد) ، ان ثمة اتفاقا كبيرا حصل آنذاك بين الأسد وهنري كيسنجر للدخول الى لبنان. وهي سعت فقط لنفي ان يكون الاتفاق قد شمل أيضا اسرائيل.
اصل الطائف سوري
واذ تمهد شعبان لكشف الأسرار بالاشارة الى ان حافظ الأسد سعى لاحتواء الجبهة اللبنانية اليمينية، واستقبل في 6 كانون الأول/ ديسمبر 1975 رئيس حزب الكتائب بيار الجميل، تقول ان الأسد حاول بداية :” فصم عرى التحالف الماروني الاسرائيلي بالوسائل العسكرية” ثم في عام 1989 ” وقّع نواب المجلس اللبناني المجتمعون في مدينة الطائف السعودية على وثيقة اصلاح سياسي انهت خمسة عشر عاما من الحرب الأهلية، استند اتفاق الطائف الى الوثيقة الدستورية التي كان الأسد قد خرج بها عام 1976 “. أي اننا نفهم من كلام شعبان ان اتفاق الطائف ( الذي تم التوصل اليه بعد 12 عاما على اغتيال جنبلاط ) أصله سوري، وذلك فيما كان كمال جنبلاط في العام 1967 قد انتقد الوثيقة الدستورية معتبرا انها تكرس الطائفية وكذلك رفضها الرئيس سليمان فرنجية.
اللقاء الأخير
هنا تعود بثينة شعبان الى آخر اجتماع بين الأسد وكمال جنبلاط فتقول :” حاول حافظ الأسد في اجتماع عاصف دام ثماني ساعات ونصف في السابع والعشرين من آذار اقناع جنبلاط بالعدول عن حماسته الثورة لمصلحة ايجاد حل سياسي متوازن، وقد حذّره من ان انتصارا عسكريا شاملا للحركة الوطنية ومنظمة التحرير قد يستدعي ردود فعل اقليمية ودولية خطيرة بما فيها غزو اسرائيلي مدعوم أميركيا للبنان. كما أنه نبّه جنبلاط الى أن لا طرف في لبنان يستطيع الغاء الطرف الآخر تماما، وان قواته لن تستطيع ذبح كل مسيحيي لبنان، بل ستدفع افعاله الى تقسيم لبنان…. وبعد اقل من اسبوع على لقائهما، شنّت قوات الحركة الوطنية ومنظمة التحرير الفلسطينية، هجوما واسعا على قرى الشطر المسيحي من جبل لبنان وفي محاور بيروت، وباتت الكتائب وحلفاؤها على وشك الهزيمة” .
الأسد كيسنجر :
تروي بثينة شعبان الأمور التالية بين حافظ الأسد وهنري كيسنجر ثعلب سياسة الخطوة خطوة الأميركية:
· طلب كينسجر من مورفي ( السفير الأميركي) الاشادة بدور سورية البناء والحذر في تحقيق وقف اطلاق النار وفي وضع اسس الحل السياسي في لبنان .
· ارسل رسالة شفهية في 29 آذار بواسطة القائم بالأعمال الأميركي في دمشق روبرت بيلترو رحب فيها بالوثيقة الدستورية التي توصلت اليها سورية ووقف اطلاق النار الذي تبعها.
· ابرق الى الاسد نافيا الكذبة الفاضحة والخبيثة التي تقول ان ( السفير دين) براون حث جنبلاط على مواصلة القتال
· ختم كيسنجر البرقية بتأكيده ثقته الكاملة بأن الرئيس الأسد لا يمكن تضليله بمثل هذه المناورات الجنبلاطية.
· مورفي نقل الى الرئيس الأسد مرة ثانية تقدير الرئيس فورد للطريقة المسؤولة التي تعاملت بها سورية مع الوضع في لبنان خلال الأشهر الماضية.
صحيح ان الدكتورة شعبان، تنقل أيضا في كل ما كتبت، الحذر الأميركي من اي تدخل عسكري مباشر الى لبنان وتهديد اسرائيل، لكنها هي نفسها تكشف انه بعد دخول وحدات من جيش التحرير الفلسطيني ومنظمة الصاعة ( التابعين آنذاك لسورية) الى بيروت والسيطرة في اقل من اسبوع على مطار بيروت الدولي وموانيء المدينة ، فان مستشار الأمن القومي الأميركي برينت سكوكرفت اعترف بالفوائد الآنية للتدخل السورية، لكنه حذر الرئيس فورد من أن سورية قد تتمكن خلال سنتين من تعزيز قوتها وفرض نفسها قوة مسيطرة على القوس الممتد من لبنان الى الأردن .
كيسنجر اسرائيل الأسد
هنا بالضبط طُرح السؤال طويلا، كيف قبلت اسرائيل فعليا بالدخول العسكري السوري الى لبنان. بعض الجواب نجده في الكتاب نفسه للدكتورة شعبان حيث تروي التالي :
” اقترح كيسنجر صيغة بارعة يمكن بها دخول القوات السورية لاعادة الاستقرار الى لبنان دون حصول رد فعل اسرائيلي. ففي الثالث والعشرين من آذار، تلقى كيسنجر أخيرا ردا من رابين على تساؤلاته، اكد فيه أنه في حال حصول تدخل عسكري سورية، فان القوات الاسرائيلية ستحتل بصمت مواقع استراتيجية في جنوب لبنان، وفي اليوم التالي حددت مذكرة اسرائيلية ارسلت الى واشنطن انواع الاسلحة والقوات السورية التي لا تقبل اسرائيل وجودها في لبنان، وخاصة انتشار وحدات سورية اكثر من عديد لواء واحد ( بما في ذلك القوات الموجودة سابقا في لبنان) ، كما ورد في المذكرة ان اسرائيل لن تتساهل مع تقدم اي قوات سورية اكثر من 10 كيلومترات جنوب طريق بيروت-دمشق “
هذا هو الاتفاق الذي عُرف تاريخيا ب” اتفاق الخطوط الحمر” ، واذ تؤكد شعبان ان ” الأسد رفض كل الخطوط الاسرائيلية الحمراء ” تعود للقول ان كيسنجر أرسل في الرابع عشر من نيسان برقيتين الى دمشق، قام مورفي بقراءتهما للمستشار السياسي للرئيس الأسد :
· البرقية الأولى : “ان الحكومة الاسرائيلية أبلغت الحكومة الاميركية انها التزمت الصمت حيال دخول القوات السورية الى لبنان …”
· البرقية الثانية : ” لقد ضغطنا خلال الايام الماضية بشدة على الاسرائيليين ليمتنعوا عن اصدار اي رد فعل تجاه ادخال قواتت سورية وعتاد ثقيل ” .
الخلاصة
القاريء للفكر السياسي والانساني والروحاني الموسوعي عند كمال جنبلاط، والمتابع بدقة لسياسة واستراتيجية وخطابات حافظ الأسد يصل اليوم الى نتيجة مأساوية مفادها، ان الرجلين كانا قادرين على لعب دور كبير فعلا في الشرق الأوسط والتأسيس لمشروع سياسي جامع بعد وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر لو تفاهما ، لكن رغبة الأسد في تمكين سورية من دور محوري في الشرق الأوسط جعله يضع السيطرة على لبنان نصب عينيه ( وهذا ما نفهم تفاصيله من كتاب الرئيس ايلي الفرزلي أجمل التاريخ كان غدا ) ويتفاهم مع الأميركيين حتى ولو ان الأسد لم يكن راغبا بالوحدة وفق ما قالها لقادة الجبهة اللبنانية وما كشفته شعبان. بالمقابل فان حلم كمال جنبلاط بسيطرة الحركة الوطنية على لبنان واستعادة دور له شخصيا كان يعتبره طبيعيا، كانا يتناقضان ليس فقط مع رغبات الأسد ولكن أيضا مع واشنطن التي لم ولن تقبل يوما بأن يصبح لبنان بلدا يساريا اشتراكيا وقاعدة للنضال ضد اسرائيل. وهذا ما جعل جنبلاط يمضي في مشروعه حتى الشهادة.
كانت نظرتا الأسد وجنبلاط متناقضتين تماما لمفاهيم الديمقراطية والحريات والاستقلال، لكن هل لو أنهما اتفقا، كانا قادرين فعلا على تغيير وجه المنطقة وانقاذ بلديهما؟ السؤال سيبقى سؤالا، لكن الاكيد ان أميركا افادت جدا من صراعهما، وفلسطين خسرت، واليسار ضُرب في الصميم، واليمن انتعش، واسرائيل ارتاحت، فبعد اغتيال كمال جنبلاط بخمس سنوات غزت اسرائيل لبنان وجاءت برئيس جمهورية وضربت القوات السورية وقضت على اهم دعم عسكري للقضية الفلسطينية. والخسارة شملت طبعا سورية ولبنان ولو بنسب واوقات متفاوتة.