رواندا من رماد المذبحة الى اسرع اقتصادات افريقيا ..
533
Share
ابين اليوم – خاص/ بشرى الشهابي
ولت العاصمة الرواندية كيغالي خلال السنوات الـ 25 الماضية، وخاصة آخر عشر سنوات، إلى المدينة الأكثر جاذبية وحفاوة في أفريقيا، وذلك لأسباب شتى، من بينها الدور الذي لعبه الرئيس بول كاغامي، وبفعل تبني قوانين وسياسات جديدة، وأيضا بفضل السكان الذين يعيشون في كيغالي بصورة أساسية.
وبرغم وجود الكثير من العوامل التي أدت إلى أن تنعم هذه المدينة ببنية تحتية قوية وبنمو مزدهر، فإن مسألة اعتياد السكان على التعاون والتآزر أو باختصار “خدمة المجتمع” – التي يُعبر عنها بمفردة “أومينغاندا” الكينية الرواندية – تبدو السبب الأكثر أهمية من سواه، كمبدأ حاكم ومُنظم للتعاملات في العاصمة الرواندية.
ففي الفترة ما بين الساعة الثامنة والحادية عشرة من يوم السبت الأخير في كل شهر، يتعين على كل أسرة رواندية أن تسهم بواحد على الأقل من أفرادها – يتراوح عمره ما بين 18 و65 عاما – لكي يقوم بأعمال التنظيف أو التصليح أو الصيانة خارج المنزل.
وتشكل خدمة المجتمع على هذه الشاكلة، جزءا من الثقافة والتراث في رواندا، وقد أصبحت أمرا يُشجع على القيام به بشكل رسمي منذ عام 1998، وسُن قانون بشأنها قبل عشر سنوات.
وبينما بات بالإمكان تغريم من يتخلف عن الوفاء بواجبات الخدمة المجتمعية هذه، بشكل متكرر دون أسباب وجيهة، فإن كل من تحدثت معهم حول هذا الموضوع، أبدوا تأييدهم لأن تسود هذه الممارسة في مختلف أنحاء البلاد.
ولعل من يرى رواندا اليوم لا يصدق أن 26 عاما فقط، مرت على تلك الأيام المئة التي شهدت فيها البلاد الحرب الأهلية الأكثر وحشية في القرن العشرين، حينما تواجهت مجموعتا الهوتو والتوتسي العرقيتان، ما أسفر عن مقتل نحو 800 ألف شخص.
ورغم أن القانون في رواندا يحظر ذكر هاتين المجموعتين العرقيتين ولو عَرَضا، نظرا لعمق الشقاق الذي شهدته هذه الأمة في فترة الحرب، فقد قالت لي إيسبرانس إن بوسعي كسائح الحديث بحرية وطرح الأسئلة أيضا حول هذا الموضوع.
أما هي فربما تتعرض لخطر الاعتقال، إذا سمعها أحد وهي تتحدث مع أيٍ من مواطنيها، وتشير إلى هذا الشخص أو ذاك، باعتباره من الهوتو أو التوتسي.
ومن هذا المنظور، تشكل الـ ” أومينغاندا” وسيلة أخرى تستهدف تعزيز الشعار الرسمي المرفوع في هذا البلد الأفريقي، ويقول إنه لا توجد تقسيمات أو جماعات بعد الآن، وأن كل من في رواندا هو ببساطة رواندي لا أكثر. وتفيد المؤشرات بأن هذا الأسلوب يؤتي أكله حتى الآن.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الأمان السائد في العاصمة الرواندية، جعلها تُصنّف من جانب السلطات الأمريكية، على أنها في المستوى الأول من الناحية الأمنية مثلها مثل مدينة فانكوفر الكندية.
أما الود الذي يبديه السكان، فقد لمسته خلال تجوالي في حي نياميرامبو الصاخب ذي الغالبية المسلمة. ففي ذلك الحي، الذي يشتهر بمطاعمه وحاناته ومقاهيه ومحلات الأزياء الموجودة فيه والتي تصطبغ كلها بطابع أفريقي واضح، وجدت المارة يلوحون لي طوال الوقت تقريبا.
وخلال سيرنا في سوق كيميسيغارا الشعبي ذي الأربعة طوابق – الذي تُعرض فيه سلع متنوعة من أبرزها الحبوب المجففة والملابس المستعملة – شرحت لي إيزير رؤيتها عن الطريقة التي ترى أنه يتعين على السائحين أن يتعرفوا من خلالها، على مدينتها على النحو الأمثل. إذ يتوجب على السائح – بحسب هذه الرؤية – أن يتوجه في البداية إلى “النصب التذكاري للإبادة الجماعية، إذ أن ذلك سيعطيه فكرة عن طبيعة كيغالي، وكيف أصبحت على ما هي عليه الآن، وما الذي حدث فيها”.
في شباط/ فبراير 2019، أطلقت رواندا أوّل قمر صناعي لها في الفضاء. وكان الهدف من ذلك ربط المدارس النائية في رواندا على نطاق واسع، بالإنترنت، وتوفير فرص كبيرة للتنمية للجيل الجديد من الروانديين. ومن المقرر أن يتبع هذه الخطوة إطلاق قمر صناعي ثانٍ، لأبحاث الفضاء والمساعدة في جمع البيانات حول موارد المياه والكوارث الطبيعية والزراعة والأرصاد الجوية، بما يخدم مصلحة البلاد والمواطنين الروانديين.
اليوم، بعد 25 سنة من الإبادة الجماعية في رواندا، شهدت البلاد تحولات ضخمة، ويرى كثير من المختصين أن رواندا أصبحت دولة يحتذى بها في مجالات التنمية الاقتصادية والتخطيط؛ حيث شهد اقتصاد البلاد ازدهارًا كبيرًا، وارتفع متوسط العمر المتوقع إلى أكثر من 30 %، وتراجعت نسبة الانقسامات العرقية تراجعًا ملحوظًا جدًا، من خلال سياسات الدولة التي تهدف إلى تحفيز المصالحة والتماسك والسلم المجتمعي. وقد أشاد البنك الدولي برواندا، لكونها دولة “حققت تطورًا مثيرًا للإعجاب
تذكر الأمم المتحدة أن رواندا “شجّعت على خلق بيئة خالية من الفساد، وعاصمة نظيفة وحكومة تدار إدارة جيدة وفعالة، تسعى من خلالها الدولة الرواندية إلى جذب الاستثمار الأجنبي المباشر”، وبسبب ذلك يُشاد دومًا بالعاصمة كيغالي، في وسائل الإعلام الدولية والمحلية، باعتبارها “سنغافورة أفريقيا”، وذلك بسبب التدابير الكثيرة المتخذة لتحسين الأوضاع، مثل تحسين ظروف سكان الأحياء الفقيرة في العاصمة؛ وتحسين إدارة النفايات في المدينة؛ إضافة إلى حظر الأكياس البلاستيكية والتدخين في الأماكن العامة، و”تعزيز الزراعة الحضرية في التخطيط التنموي للمدينة، حيث ساهمت بنحو 25 في المئة من إمدادات الغذاء في العاصمة، وتوظيف ما يقدر بـ 37 % من القوى العاملة في المدينة، في الأنشطة الزراعية الصغيرة”
في الختام، من الواضح الآن أن رواندا أعطت العالمَ مثالًا واقعيًا عن إمكانية النهوض بعد السقوط، وعن كيفية النهوض، ولكن هذا لم يتمّ من خلال تجنب حقيقة أن رواندا سقطت وتضررت بالفعل، إنما من خلال تعلّم كيفية بناء مستقبل الأمة بالاستفادة من أخطاء الماضي، ولم تُدفن هذه الأخطاء والكوارث بعيدًا عن الوجدان الرواندي، وإنما حُوّلت إلى منارات تضيء للروانديين طريق مستقبلهم المشرق. ولضمان هذا المستقبل، تم تنفيذ آليات مختلفة بعناية وبشجاعة، لتعالج الطبيعة التاريخية والاجتماعية والاقتصادية الخاصة للأمة الرواندية. ومن الجدير أن تُدرس هذه التجربة بعناية وعمق أكثر، خاصة من قِبلِ تلك البلدان التي وقعت في دوامة الحروب الأهلية، لاستلهام الدروس واستخلاص العِبر.